كتب

أبو زيد الإدريسي.. مراجعات في تطوير الفكر السياسي الإسلامي

المقرئ أبو زيد الإدريسي يعيد قراءة تراث مالك ابن نبي- (عربي21)
المقرئ أبو زيد الإدريسي يعيد قراءة تراث مالك ابن نبي- (عربي21)

المؤلف: أبوزيد المقرئ الإدريسي
الكتاب: قضايا سياسية
الناشر: مؤسسة الإدريسي الفكرية للدراسات والأبحاث
الطبعة الأولى 2020


لشخصية المقرئ أبي زيد الإدريسي تأثير فكري عميق في المدرسة الحركية الإسلامية، فقد نزل إلى الساحة الفكرية مبكرا، وعليه كان مدار تأصيل الكثير من المفاهيم، فضلا عن ترسيخ العديد من المراجعات الفكرية والسياسية التي دشنتها الحركة الإسلامية المغربية في بداية الثمانينيات.
 
والمثير في هذه الشخصية الفريدة، وربما في تاريخ الحركات الإسلامية، هو سعة اطلاعها، وانفتاحها على أكثر من حقل معرفي، لغوي ولساني وشرعي وتاريخي وسياسي، فضلا عن اطلاع مهم على حقل العلوم الاجتماعية والسياسية، بل إن الأمر، لا يقتصر على الاطلاع، وسعة الانفتاح على التجارب، بل يهم الرؤية النقدية المبكرة، التي حملها وعبر عنها مبكرا، حتى أن المتابع يخيل له أن للمقرئ مسافة بعيدة عن التنظيمات الحركية، باستقلال فكره، وقدرته على إعمال النقد الجريء. فالرجل، يعتبر مكتبة متحركة، تحتفظ بالتاريخ التفصيلي لمختلف الحركات الإسلامية، من تجربة حسن البنا إلى حزب العدالة والتنمية بتركيا، ويمتلك رؤية تفكيكية لخطوطها الفكرية والحركية، قلما تتوفر للقيادات الفكرية، بل قلما تتوفر حتى للباحثين الذين نذروا أنفسهم للاختصاص في دراسة المتن الفكري والسياسي للحركات الإسلامية.

لكن من سوء حظه، أنه مضى على تأطيره الفكري الكثيف أكثر من ثلاثين سنة، منذ بداية الثمانينيات إلى السنوات القليلة الماضية، وتراثه الفكري خبيء المتن الشفوي، إلى أن انتبه، وربما انتبهت مؤسسته، إلى أهمية المتن الكتابي، وأهمية توثيق تراث هذا المفكر الذي لم يحظ بالقدر اللازم من العناية.

يكتسي كتابه "قضايا سياسية" الذي أصدرته مؤسسته هذه السنة، أهمية خاصة، فعلى الرغم من أن عنوانه لا يحمل أي جاذبية، بل يوحي بأن الكتاب هو أشبه ما يكون بسلسلة مقالات على شاكلة ما يقوم بعض الكتاب حينما يريدون توثيق ما تناثر من مقالاتهم في مجلات وصحف، فيعمدون إلى نشرها في كتاب، على الرغم من الاختيار غير المصيب للعنوان غير المغري وغير الجذاب، فإن مشموله الفكري،  يكتسي أهمية خاصة، وذلك من ثلاث جهات على الأقل: أولها، أنه يتناول بالتحديد الفكر السياسي للحركات الإسلامية بالمدارسة والنقد والتشريح المعرفي الدقيق، والثاني، لأنه يمارس فعل التفكيك والنقد من موقعين، موقع المفكر الممسك بعدد من آليات التحليل المتعارف عليها في حقول معرفية مختلفة، ثم موقع الفاعل الحركي، الذي ألزم نفسه منذ زمن بعيد بارتداء جبة الناقد المرشد الجريء الذي لا تنمطه الرؤى السائدة. 

أما الزاوية الثالثة، فتظهر من خلال تأثيره في مسار التأصيل للأفكار السياسية الجديدة داخل الحركة الإسلامية. وهو ما يجعل كتابه، محور جذب مهم من شرائح واسعة من النخب التي تراقب فكر الحركة الإسلامية، بل وشرائح واسعة من النخب الحركية التي تعيش توترات فكرية وسياسية من جراء التحولات التي تعرفها الحركات الإسلامية في العالم.

يجمع هذا الكتاب كثيرا من الإشكالات السياسية والحقوقية التي اضطرب فيها فكر الإسلاميين، ويقدم حفريات تأصيلية فيها، باستحضار البيئات التي أفرزتها، ومن ذلك الزخم الفلسفي الذي أنتجها، ويجتهد المقرئ أبو زيد في تقديم قراءة أخرى لحقوق الإنسان والمجتمع المدني ودوره في الرقابة، باستقراء النص الشرعي والتجربة التاريخية للأمة، ويجترح مقاربات تصالحية نوعية، يحاول ما أمكن فيها الابتعاد عن النفس الحدي الاستقطابي، ويستحضر اجتهادات غربية تبنت هذا الموقع، لتجسير العلاقة بين المختلفين، والتأسيس لمصالحة كبيرة بين الدولة والمجتمع، وبين الدولة والأمة، وبين النخب المتصارعة في العالم العربي والإسلامي.

الثقافة تؤسس للسياسة

لا يخفي المقرئ أبو زيد إعجابه الشديد بمدرسة مالك بن نبي، لكونه، دشن مسارا مختلفا في التعامل مع السياسة، فمالك بن نبي لم ينشغل بالسياسة كما يشتغل بها السياسيون أو الأكاديميون، ولكنه اشتغل بها من زاوية الثقافة أي من زاوية تأسيسية، ملحا على الدور الذي تقوم به كتابات مالك بن نبي في إعادة تشكيل وعي الحركة الإسلامية، واستعادة طرح سؤال النهضة في الخطاب النهضوي المعاصر، من خلفيته الثقافية والحضارية. فيرى المقرئ أبو زيد أن مالك بن نبي، انشغل عن السياسة بالثقافة من أجل السياسة، أو من أجل التأسيس لسياسة عقلانية رشيدة، وهي الحقيقة التي غفل عنها كثير من المثقفين الذين أغرتهم السياسة، فما أصلحوا شيئا مما حلموا به، ولا أبقوا على ألقهم الفكري ومصداقيتهم لدى الأمة.
 
تابع المقرئ ابو زيد الأفكار السياسية التي نظر لها مالك بن نبي، وتوقف منها على ثلاثة أفكار أساسية، فكرة الأفروآسيوية التي حاول فيها التأسيس لمؤتمر "باندونغ"، و"فكرة كمنولث إسلامي"، ثم مفهومه للثورة، فأشار المقرئ إلى أن مالك بن نبي لم يتعامل مع مؤتمر "ّباندونغ"ّ من زاوية المضمون السياسي الضيق، أي بوصفه متابعا للتفاصيل الدقيقة للشأن اليومي المتعلق بحيثيات هذا المؤتمر وأدواره، وتفاصيل تحالفات الأطراف، وحساب الربح والخسارة، وموقع كل طرف من الأطراف  وإنما، فضل ـ وفاء منه لخطه الفكري ـ أن يتناول الفكرة الأفروآسيوية من زاوية تأسيسية ثقافية وأخلاقية، يمارس فيها تخصصه في البناء الثقافي والحضاري للأمة خصوصا وللعالم الثالث عموما.

 

المثير في تأصيل المقرئ أبو زيد الإدريسي، أنه استنطق نصوصا قلما يلتفت إليها المنشغلون بمقومات القيادة ممن يلتفتون أكثر للمواصفات الأخلاقية والتربوية والروحية، فيستحضر لطائف عميقة في فهمه لبعض النصوص كما فعل مع قصة إبراهيم الذي أناط الله به الإمامة فطلبها لذرتيه، فاعترض عليه القرآن، بأن الظالمين لا ينالون عهد الله.

 



وكذلك فعل مع مفهوم الثورة، حين اعتبر مالك بن نبي أساس كل تغيير حقيقي لابد أن يكون فكريا، ووضع شرطا أساسيا لنجاة الثورات من داء الانحراف أو الإجهاض، هو إعمال النقد الذاتي الثوري والمستمر، باعتبار هذه الآلية علاجا دائم المفعول لتصحيح مسار الثورة وحمايتها من كل الآفات التي يمكن أن تصيبها أثناء الطريق.

يتعمق المقرئ الإدريسي في الأفكار السياسية لمالك بن نبي، ويركز على خلفيتها وأسسها الثقافية والفكرية، ويؤكد أن القصد من إعادة قراءة مالك بن نبي هو الدعوة إلى إعطاء الثقافة حجمها ودورها في تأسيس السياسة، والالتفات إلى دور مالك بن نبي في تطوير بعض الأفكار السياسية أو في إنتاجها ابتداء.

في مقومات القيادة السياسية

يطرح المقرئ أبو زيد إشكالا منهجيا مثيرا في دراسة القيادة السياسية في الإسلام، ذلك أن أغلب الكتابات التي راحت تؤصل لهذا المفهوم، اتجهت إلى النصوص التي تخاطب المكلفين، وبنت عليها تصورا للقيادة السياسية، في حين أن المطلوب هو بحث النصوص الخاصة بنوعية من المكلفين أسبغ عليها النص مواصفات القيادة السياسية. ومع تفهمه لهذا المسلك في التأصيل إلا أن المقرئ أبا زيد حذر مما أسماه بمخاطر الافتراء على النص باسم التأصيل، فحاول أن يسلك طريقا مختلفا في التأصيل لمفهوم القيادة السياسية ومواصفاتها، وذلك بالمزاوجة بين التضييق المنهجي للموضوع بالوقوف على النصوص المباشرة، مع التوسع المحدود في المفاهيم الخاصة بالقيادة أو القريبة منها.
 
وقد قاده هذا المنهج إلى تأصيل مفهوم القيادة السياسية والتوقف على الشروط العامة التي تطلب فيها، والتي لا تكون القيادة قيادة بدونها، ولا يصلح القائد أن يكون قائدا إلا إذا تحلى به، فذكر من ذلك القصدية، ووعي القائد بوجود غاية من خلق الإنسان وسعيه في الأرض، تستوجب هذه الغاية أن يكون ذا رسالة محددة المعالم، فالقائد الفاعل لا يلغو، لا قولا ولا فعلا، وهو دائم الضجر من الأشياء التي لا تجدي نفعا، ثم ذكر منها أيضا الإبداع، وعنى به معاداة التقليد، وحسن البصيرة، وترك الأحكام الجاهزة، والقدرة على المبادرة، والنفسية الإيجابية. وهذه العناصر التي تتجمع فتشكل الإبداع، ثم ذكر من الشروط العامة الشورى، والتأمل الخلاق والتحرر من النظرة السطحية أو المتعجلة، ثم المصداقية، فذكر في ذلك المصداقية والاستيعاب والقوة المادية والفكرية.

والمثير في تأصيل المقرئ أبو زيد الإدريسي، أنه استنطق نصوصا قلما يلتفت إليها المنشغلون بمقومات القيادة ممن يلتفتون أكثر للمواصفات الأخلاقية والتربوية والروحية، فيستحضر لطائف عميقة في فهمه لبعض النصوص كما فعل مع قصة إبراهيم الذي أناط الله به الإمامة فطلبها لذرتيه، فاعترض عليه القرآن، بأن الظالمين لا ينالون عهد الله.

في التأصيل لدور الأمة الخادم والداعم والرقابي للدولة

ومن البحوث الدقيقة التي تناولها كتاب المقرئ أبو زيد التفكيك الدقيق لعلاقة الدولة والأمة، ومسار تطور العلاقة بين المفهومين، وواقعها التاريخي، والأدوار التي اضطلع كل واحد منهما بها، إلا أن وصل الأمر بهما إلى التناقض في الوظائف والتطلعات.

يتناول المقرئ ابو زيد هذا الموضوع الشائك، وعينه على قضية المصالحة بين الأمة والدولة، ومحاولة التأصيل لها، والتأسيس لفكرة الدور التكاملي الذي تقوم به الأمة في دعمها للدولة، وليس الصراع معها ولا نقض شرعيتها والتنازع مع وظائفها.

 

حاول المقرئ أبو زيد أن يقدم اجتهادات مختلفة عن الأطروحات التنميطية التي تتناول حقوق الإنسان في الإسلام، مركزا في تأصيله على ما أسماه بالرباعية الحقوقية في الإسلام، التي تتسم بالتكامل والتدرج من حيث الأهمية والأولوية

 


يستعرض المقرئ أبو زيد بطريقة طريفة الدور المؤسسي الذي قامت به الأمة، في مختلف المجالات التربوية والتعليمية والاستشفائية والخيرية والإغاثية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية، ويتوقف على الطابع المستقل والحيوي لهذا الدور المؤسسي، وكيف كان يجسد روح الأمة والمحرك للمجتمعات الإسلامية في تاريخها الطويل، وكيف كانت تعبئة الجماهير معنويا وبشريا وماليا هو عمادها وعنصر قوتها ووقود أنشطتها المدنية والحضارية، وكيف أدى هذا الدور المستقل عن الدولة إلى حمايتها من تغول الدولة، وتحصين الشعوب من الوقوع في الدائنية وفقدان الاستقلالية المالية، فبل وفي خدمة قوة الدولة نفسها.

يستعرض المقرئ أبو زيد بنفس تحليل وظائف الأمة، ودورها في حماية نفسها من تغول الدولة، وفي الوقت ذاته تقوية الدولة وتعزيز قدراتها، ويؤكد على أهمية استعادة هذا الدور وهذه الاستقلالية، وأن ذلك يمثل الضمان الوحيد لبقاء الأمم واستمرارها، ويعلل ذلك بأن التوقف عن العطاء مؤذن بالشروع في الأخذ السلبي(الاستهلاك)المؤدي إلى الفناء البطيء عبر أجيال.
 
مقاربات تأصيلية جديدة للمجتمع المدني وحقوق الإنسان

لم يغفل المقرئ أبو زيد في كتابه موضوعين أساسيين من الموضوعات التي اضطرب فيها عقل الإسلاميين كثيرا، وهو دور المجتمع المدني، وقضية حقوق الإنسان، فقد خصص لهذين الموضوعين فصلين من كتابه، حاول من خلالهما التأصيل للدور الرقابي للمجتمع المدني، سواء من خلال التجربة الإسلامية أو من خلال التجربة الغربية، كما قدم مساهمة تأصيلية مهمة حول حقوق الإنسان، متجاوزا بذلك الرؤية الحدية الاستقطابية التي تقسم الناس بإزاء حقوق الإنسان إلى منخرط متماهي، ومعارض منابذ للخلفية العلمانية لحقوق الإنسان، محاولة التماس الخيط الجامع بين الطرحين، بالاستعانة بآراء فلاسفة كبار من أمثال هابرماس، الذي انشغل بسؤال ضبط العلاقة بين المجال الديني والمجال الزمني، والصيغة التي يمكن بها حفظ دور الدين، دون هدم نسق الحداثة.
 
وقد حاول المقرئ أبو زيد أن يقدم اجتهادات مختلفة عن الأطروحات التنميطية التي تتناول حقوق الإنسان في الإسلام، مركزا في تأصيله على ما أسماه بالرباعية الحقوقية في الإسلام، التي تتسم بالتكامل والتدرج من حيث الأهمية والأولوية، مبتدئا بالحق في الحياة، الذي يشمل كل الحقوق الإنسانية الضرورية، لضمان عيش كريم للإنسان، من مثل الحق في التغذية والملبس والمأوى والتعلم والعلاج والتنقل والعمل وغيرها من ضروريات الحياة التي بدونها يستحيل عيش الإنسان، أو يتعذر أن يكون عيشا كريما، ومثنيا، بالحق في المشاركة، والذي ويشمل كل الحقوق المدنية والسياسية التي تمكن الإنسان من المشاركة في تقرير مصيره وتسيير شؤونه واختيار مسؤوليه، ومثلثا بالحق "الاستمرار"، والذي قصد به كل ما يحفظ البيئة وما فيها من عناصر حيوية من الدمار أو الاستهلاك المفرط أو الإفساد أو التحول الضار، ومختتما هذه الرباعية بالحق في "النجاة"، والذي يقصد به حق الإنسان في أن يستقيم على الفطرة، وأن يراعي ثوابت الوحي، ويعبد الله بكامل الحرية والأمان. وأن يمارس ذلك اختيارا إيمانيا واعيا، دون قهر أو تغول يمارسه أي طاغوت سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو إعلامي أو رمزي. 

التعليقات (0)