ملفات وتقارير

تصاعد الخلافات بين القوميين والإسلاميين في تونس

سجال بين الإسلاميين والقوميين حول الموقف من الثورة في ليبيا وسوريا  (عربي21)
سجال بين الإسلاميين والقوميين حول الموقف من الثورة في ليبيا وسوريا (عربي21)

عاد السجال بين القوميين والإسلاميين في تونس إلى مربعه الأول، بعد أن تمت تغذيته بعناصر جديدة تمتاح أسسها من تجربة الحكم التي أعقبت الإطاحة بنظام الراحل زين العابدين بن علي. وغدت الشراكة في الحكم التي يمثلها الائتلاف بقيادة إلياس الفخفاخ ومشاركة الإسلاميين والقوميين بالإضافة إلى التيار الديمقراطي وتحيا تونس وعدد من المستقلين، مهددة بالزوال في حال تصاعدت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، بعد أن تجاوز الخلاف وسائل التواصل الاجتماعي وقبة البرلمان ووصل إلى الإعلام العربي.

بداية القصة

خلافات الإسلاميين والقوميين في تونس ليست وليدة اليوم، ولا وليدة التجربة الديمقراطية التي أعقبت سقوط نظام ابن علي، وإنما تعود بجذورها إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبلغت أوجها في الثمانينيات في الجامعة التونسية، أيام إقدام الإسلاميين على تأسيس منظمتهم الطلابية النقابية "الاتحاد العام التونسي للطلبة".

وظن البعض أن مرحلة ما بعد الثورة وابتداع التونسيين لسنة التوافق بين التيارات الفكرية والسياسية، التي كانت أشبه ما يكون بفكرة "الكتلة التاريخية"، قد تزيل هواجس الماضي الإيديولوجية وتفتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين التيارين القومي والإسلامي، باعتبار ما بينهما من وشائج قربى في المرجعية والأهداف..

لكن تداعيات الربيع العربي التي أفرزت ثورات شعبية في غالبية الأقطار العربية، ولا سيما في ليبيا وسوريا، ثم الانقلاب العسكري الذي نفذه الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السياسي على الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، عادت لتدق إسفينا بين القوميين والإسلاميين، وتجديد عداوات تاريخية..

البداية كانت في مداخلة للنائب عن حركة الشعب في البرلمان التونسي هيكل مكي، يوم 24 نيسان (أبريل) الماضي وجه فيها التحية إلى الجيش التونسي والجيش الليبي الموالي لحفتر والجيش السوري على دورهم في ما قال إنه حرب على الإرهاب.. ثم أعقبه برسالة إلى رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي، ووصفه بـ "كبير الإخوان المتأسلمين بتونس"، حمله فيها المسؤولية عن سلامته الشخصية، بسبب ما قال إنه تهديد تعرض له بسبب مداخلته آنفة الذكر.

 

 



وقد تكفل رئيس الكتلة البرلمانية لحركة "النهضة" نورالدين البحيري بالرد على هيكل مكي في تدوينة له على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" وصف فيها رسالة هيكل المكي لرئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة بأنها "الموقف الخطأ في الوقت الخطأ". 

وقال البحيري موضحا ذلك: "موقف خطأ حاول من خلاله استهداف رئيس مؤسسة هو أحد اعضائها ورئيس حزب شريك لحركة الشعب في الحكم وواحد من أهم رموز التقارب الإسلامي ـ القومي والدفاع على الهوية والتسامح والاعتدال والوسطية وقضايا الأمة والعالم وفي مقدمتها القضية الفلسطينية والوحدة العربية ومقاومة الاستبداد والفساد وغزو العراق والاستعمار ومن أهم عناوين الدفاع عن قيم العدل والحرية والثورة والتعايش والشراكة والتوافق الوطنيين".
  
وأضاف: "هو موقف خطأ لانه تأسس على خيار تقسيمي للمجتمع وعدائي اتجاه جزء من التونسيين وإحدى أهم مؤسسات الدولة مجلس نواب الشعب ورئيسه في وقت البلاد في أشد ما تكون للتضامن ووحدة الموقف والصف للانتصار في حربها ضد وباء كورونا".

وتابع: "هو موقف خطا لأنه يكشف أننا أو بعضنا لم نقدر على الارتقاء إلى مستوى ما تتطلبه المرحلة من نكران للذات وتعال عن الحسابات والجراح حقيقية كانت أو وهمية والتخلص من الأحقاد التي أعمت  الأبصار والبصيرة والعياذ بالله حتى لم يعد بعضنا يميز بين الحق والباطل والطيب والخبيث وما ينفع البلاد وما يضرها". 

 



ورأى البحيري أن رسالة النائب عن حركة الشعب هيكل المكي الى رئيس مجلس نواب الشعب  وحرصه على نشرها لا علاقة لها في جوهرها بالمجلس وإدارته بل أن أسبابها أعمق ولم تكن تنتظر إلا في قطرة ليفيض الكأس وينكشف المستور وليعبر صاحبها عما يعتمل بين أضلعه ولم تعد له القدرة على  كتمانه وعدم البوح به.. 
 
وقال: "من حق كل واحد منا أن يتخذ موقفا خاصا من تجارب هذا أو ذاك ممن حكموا أمتنا وشعبنا من أمثال عبدالناصر والأسد والقذافي وعلي عبدالله صالح وعمر البشير وغيرهم ومن معارضيهم إسلاميين أو ماركسيين أو ليبراليين أو قوميين وآخرين سلبا وإيجابا، ولكن ليس من مصلحة أي واحد منا ولا من مصلحة شعبنا أن يبقى أسيرا لهؤلاء ولنزاعاتهم أوعداواتهم، فما بالك أن يضع الولاء لهم فوق الولاء للوطن حتى ولو تطلب منه ذلك التحالف مع أعدائه".
 
وفي إشارة واضحة إلى بعض الأطراف الخارجية قال البحيري: "ليعلم الجميع أن ثورة تونس لم تكن للتصدير وتأسست على احترام إرادة الشعوب الشقيقة والصديقة في اختيار من يحكمها ولم تتدخل في شأن أي دولة، وهو ما لم يمنع بعض المستبدين الفاسدين من محاولة التدخل في شؤوننا واستهداف ثورتنا وأرضنا وسيادتنا دعما للمخلوع ومثلما فعلها معمر وكتائبه المجرمة التي هددت بدخول تونس فعلها من بعده حفتر والقوى الإقليمية والدولية الممولة له ولعصاباته من المداخلة والجنجويد والمرتزقة والدواعش والخونة"، على حد تعبيره..

المعركة خرجت من البرلمان إلى الإعلام

فاجأ القيادي في حركة "الشعب" الوزير السابق سالم لبيض، الجميع برسالة صادمة نشرها في صحيفة "القدس العربي" رد فيها على توضيح البحيري، وشن فيها هجوما كاسحا على حركة "النهضة" وزعيمها راشد الغنوشي، بما تضمن اتهاما بالعمالة للغرب، ووصل حد التشكيك حتى في قيمها الأخلاقية، لجهة اتهامها بعدم احترام عهودها.. 

يقول لبيض في رسالته إلى البحيري: "هل رأيت أو سمعت عن مجاهد، بالمعنى السياسيّ للجهاد أو حتى بمعناه الديني، قاوم الاستعمار وزبانيته، ودافع عن وطنه وعرضه وشرف شعبه مثل عمر المختار، أو تصدّى للاحتلال ومات من أجل الأرض المقدسّة أولى القبلتين وثالث الحرمين كما هو شأن الشيخ المجاهد أحمد ياسين، لقي حظوة وتبجيلا وحماية دولة أروبية، أو غربية، وقضّى منفاه في عاصمة الإمبراطورية الاستعمارية القديمة التي لا تغيب عنها الشمسُ، حتى طاب له المقام طيلة عشرين سنة كاملة، متنقلا بين كثير من عواصم العالم، مكرّما مبجلا مشاركا في المؤتمرات ومسموع الكلمة لدى حكومات ودول ومراكز النفوذ ودوائر إقليمية ودولية بما في ذلك منظمة الأيباك الصهيو ـ أمريكية؟".

 



وأضاف: "ألم تطّلع على حوار راشد الغنوشي في جريدة الشروق الجزائرية بتاريخ 15 أيلول (سبتمبر) 2010 الذي يقول فيه وهو يشيد بالدول التي آوت أنصاره وناشطي حزبه من طالبي اللجوء "تعتبر شهادة الانتماء المسلّمة للنهضوي طالب اللجوء موقّعة من رئيس النهضة وثيقة أساسية في قبول مطلبه"، فالمجاهدُ الحقيقيُّ ـ اقتباسا من عمر المختار ـ لا يولّي الدبر، فإمّا أن يستشهد أو أن ينتصر. وهكذا كان أمر صدام حسين ومعمّر القذافي وحتى المنصف باي الذي لقي ربه شهيدا في سجن بو الفرنسي".

وأضاف لبيض: "كان الغنوشي يجالس القذافي وقد يكون صلّى وراءه خاصة بعد تأسيس الجبهة القومية الإسلامية التي ترأسها العقيد القذافي نفسه وتولى أمانتها العامة الزعيم الإسلامي حسن الترابي الصديق الشخصي للغنوشي، الذي نسج كذلك علاقة خاصة مع سيف الإسلام القذافي، والذي كانت تربطه به صداقة كبيرة، جعلته يتدخل لدى نظام بن علي لصالح حركة النهضة والغنوشي شخصيا، وفق ما جاء في مقال جريدة القدس العربي "راشد الغنوشي يشيد بدور القذافي في دعم الثورة الشعبية".

ودافع لبيض عن هيكل قائلا: "قبل أنْ يتوجه النائب هيكل المكي من أعلى منبر مجلس النواب بتحية الجيش الوطني الليبي الذي يقوده خليفة حفتر، كانت للغنوشي وساطاتٌ ولقاءاتٌ بفرقاء الصراع الليبي بمن في ذلك ممثلي حفتر وجيشه وحكومته ومقرّها طبرق وبنغازي اعترافا منه بشرعيتهم، وبمن ينتمون إلى نظام العقيد القذافي وأنصاره، مشيدا باللقاءات التي كانت تجمع فصائلَ الإسلام السياسي الليبي بأعيان ليبيين وقياداتٍ محسوبة على المعسكر المناوئ لحكومة فجر ليبيا سابقا والوفاق حاليا". 

وتساءل لبيض: "فلماذا هذا التحاملُ والتهجم على النائب هيكل المكي وتهديده بل وتكفيره، بينما الوقائع السياسية تثبت أنّ زعيم النهضة هو من فتح بلقاءاته ووساطته باب شرعية حفتر و"جيشه الوطني"، فهل يوجد شك في أن عقيلة صالح هو الوجه الآخر لحفتر، وهو الذي يؤمن شرعية برلمانية وأخرى إقليمية ودولية، إضافة إلى أنّ الغنوشي كان سابقا على علاقة بالعقيد القذافي نفسه وبنظامه وابنه سيف الإسلام في الوقت الذي يتحالف مع معارضيه من جماعات الصلابي والمقريف وبلحاج وغيرهم، وتلك هي الرابطة الأصلية. أما غيرها من الروابط فليست سوى مناورات ولعبة مصالح وقتية".

وأنهى لبيض رسالته قائلا: "إن اختلافنا معكم هو اختلاف أخلاقيٌّ بالأساس قبل أن يكون تمايزا سياسيا، فهو اختلافٌ حول الالتزام بمكارم الأخلاق كما نصّ على ذلك الرسول الأكرم صلّى الله عليه وسلم في الحديث الشريف، وهو اختلافٌ حول المبادئ والقيم. فنحن لا نرى الدولة غنيمة للنهب وتحقيق المكاسبِ كما ترونها أنتم، ولا نرى في التمكين وسيلة للفوز بالمناصبِ والمغانم". 

وأضاف: "للأسف أنتم تعيدون إنتاجَ تجربة التجمع الدستوري الديمقراطيّ في التعامل مع الدولة، ولكن هذه المرّة في شكل مهزلة أو مأساة، تجربة قامت على ثقافة العائلة والغنيمة ( كما هي مدونة في رسالتيْ الاستقالة للقياديين النهضويين عبد الحميد الجلاصي وزبير الشهودي). فهل من استفاقة وصحوة ضمير؟"، وفق تعبيره.

قيادي في "النهضة" يرد: المنهج الاختزالي تبسيطي

لم تمض رسالة لبيض هكذا من دون رد، فقد تكفل القيادي في حركة "النهضة" أستاذ علم الاجتماع والسجين السياسي السابق محسن سوداني بالرد عليها برسالة ود لتجاوز أحقاد بالية، لكن أيضا بعين المناضل الذي دفع ثمنا باهظا في مواجهة الاستبداد والإسهام في التأسيس للانتقال الديمقراطي.

انطلق سوداني في رده الذي نشره على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك"، ولقي انتشارا واسعا، من الإقرار بأن بنية تدوينة الدكتور سالم لبيض حول ما دار داخل مجلس نواب الشعب وخارجه من سجال له علاقة بتصريحات النائب هيكل المكي وما أثارته من ردود أفعال، تنطوي على وجاهة داخلية ضمن مسار من الاستدلال بشواهد وأدلة ومواقف ثابتة. وقد تخللتها أحكام وتقديرات بُنيت على تلك الشواهد والمواقف التي سَرَدها تباعا عن أداء الأستاذ راشد ومن ثمة عن حركة النهضة. 

 



وسجل سوداني مجموعة من الملاحظات التي قال بأنها تمس من سلامة النتائج التي انتهى إليها لبيض في رسالته، والتي تقوم أولا على منهج "الافتتان الانتقائي"، ويزيل السياق عن المواقف التي اختارها للحديث عن الغنوشي ومواقفه.. 

واستغرب سوداني أن يأخذ الدكتور سالم لبيض على قيادات النهضة لجوءها إلى الغرب واتصالهم بقيادات عالمية مختلفة، ووصفه لحياتهم بالرفاه، ورأى أن ذلك لا يختلف في شيء عن أسلوب الأمن أيام الراحل بن علي، عندما كانوا يأتونهم إلى السجن ليقولوا لهم قارنوا بين وضعكم ووضع قياداتكم المرفهة في لغرب.

وأضاف سوداني: "إن الخطاب الذي تفضلت به في تعيير الأستاذ راشد بالهجرة هو وخطاب البوليس السياسي واحد. لا فرق بينهما ولو ذرة من معنى. إنها نفس البنية الثقافية. بنية تحكم العقل وتستولي عليه في لحظة الغفلة والانفعال حين يندفع إلى تجريم المختلف عنه دون تروّ. وذلك ما تسمونه أنتم علماء الاجتماع المحترمون "البنية". 

وتابع قائلا: "تلك الفكرة التي وردت في تدوينتك المحترمة والتي تعيّر رئيس حركة بالهجرة هي نسل ثقافي لذلك العقل الذي يستولي على التحليل لحظة الانفعال فيتحول بسرعة الغضب من مربع التعقل إلى مربع الاتهام والقذف. تماما كما خاطبنا أعوان بن علي رحمه الله. ولستَ مثلهم طبعا. ولكن الخطاب واحد للأسف. وهو واحد لأنه انفعل. فلو تأنّى وفكك الحدث بأدوات علم الاجتماع والسياسة لكان تقديره مختلفا".

واعتبر سوداني في آخر رده، أن سالم لجأ إلى التعقّب الاستخبارتي لاستخلاص مواقف الغنوشي بدلا من التحليل الذي يستأنس بأدوات العلوم الاجتماعية والسياسية، وقال: "ما يقوم به الاستاذ راشد الغنوشي، شأنه شأن أي فاعل سياسي آخر، يتم في وضح النهار وليس خلسة. مرمى الحجاج يجب أن ينصب على الظاهرة وليس على الشخص". 

وأنهى لبيض رسالته قائلا: "لا يجب ان نترك إشعاعات التاريخ السياسي للعلاقة المتوترة بين القوميين والإسلاميين ترتد على حاضرنا في تونس فتهدر كل فرصة للتفاهم والتقارب. كما لا يجب أن نجعل من بعض التباينات الحادة حول جملة من القضايا الراهنة تحول دون الحوار. كارل بوبر كان يقول "كلما كانت الفجوة بين الاطر الثقافية اوسع أمكن ان تكون المناقشة أخصب". فخصوبة المناقشة تتوقف على درجة الاختلاف"، على حد تعبيره.

لبيض يعود لمهاجمة الغنوشي والنهضة مجددا

لم تمض أيام قليلة على رسالة القيادي في حركة النهضة الدكتور محسن سوداني، حتى عاد الدكتور سالم لبيض في رسالة رد هي أقرب إلى الاستعراض الفكري والفلسفي منها إلى الرد السياسي، وعاد مرددا ذات الإتهمات السابقة للنهضة وارتباطاتها الخارجية، وعدم مبدئيتها.

 



التوتر بين الإسلاميين والقوميين في تونس، يتزامن مع حملة وطنية ناجحة في تونس، حتى الآن، ضد فيروس كورونا، كما أنه يتزامن أيضا مع حملة آخذة في التصاعد ضد البرلمان، ومعلومات عن توجه لإطلاق ثورة للجياع مطلع حزيران (يونيو) المقبل. ويتزامن كذلك مع توتر باد للعيان في العلاقة بين مؤسستي الرئاسة والبرلمان.

 

 

إقرأ أيضا: تونس.. غموض يهيمن على علاقة الرئاسة بالإسلاميين

التعليقات (0)