كتاب عربي 21

من الأحداث الكاشفة إلى المواطنة المقهورة.. خاتمة فاتحة (58)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
كتبنا في تلك السلسلة عشرات المقالات حول تلك الأحداث الكاشفة التي تفضح فعل الاستبداد والمستبدين، وكيف يتعاطون مع تلك الأحداث بالشكل والأسلوب الذي يوضح الاستخفاف بعموم الناس؛ من الاستخفاف بحياتهم إلى الاستخفاف بمعاشهم؛ ومن النيل من نفوسهم إلى القيام بإفقارهم وتجويعهم.. كل ذلك صار سياسة ممنهجة تعبر عن شبكة الظلم والفساد السائدة، والتي لم تكن الأحداث التي صاحبت فيروس كورونا إلا أحداثا كاشفة فارقة فضحت الاستبداد والمستبدين في مواقفهم وسياساتهم؛ وكشفت عن هذا الاستخفاف المهين لعموم الناس وكل ما يتعلق بعمرانهم ومعاشهم.. ظلم عميم واستبداد مقيم.
 
إن هذه المشاهد التي توقفنا عندها والأحداث الكاشفة التي ذكرناها لم تكن في حقيقة الأمر إلا استدعاء لتلك العوالم الأخرى التي لطالما أكد عليها مالك بن نبي في تصنيفاته العبقرية لعالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، والتفاعل الحادث بينها في عالم الأحداث. إن هذا الارتباط الشبكي بين هذه العوالم المختلفة والتفاعل فيما بينها إنما يعبر في حقيقة الأمر عن عوالم تم تشويهها بالعمد وتم اغتصابها بالقصد، وتمت إهانتها بالقول والفعل. وللأسف الشديد أن تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة يعبر عن فساد المشهد. عالم من الأشخاص يسوده الطغيان والظلم ويدعمه الأفاكون والمنافقون، ويحكم الحلقة نمط من اللامبالاة بدأ يسود، فلم يحدث إلا فرزا عكسيا يتقدم فيه الأسافل ويتأخر فيه الشرفاء، بل تواروا في الفعل والفاعلية.

وها هو عالم الأفكار بات مظلوما، وكثرت الكلمات المظلومة والكلمات المهضومة المخذولة، وسادت الأفكار الميتة والقاتلة، وتحولت بعض الأفكار إلى أوثان، وبات عالم الأفكار مسموما، وعالم القيم مخذولا، وصارت هذه العوالم تقدم سندا لعالم أشخاص يمثل حال التشوه وحال الظلم البادي. ولم يكن ذلك مقصورا على عالمي الأشخاص والأفكار، بل امتد إلى عالم الأشياء الذي صار قبيحا بما ارتكبه في حق الناس، وصار أداة للظلم. فها هي الظلوم والمعتقلات تتعدد، وها هي المنشآت التي تمثل تمايزا طبقيا قميئا تتمدد في المجتمع، وها هي المؤسسات في هذا الوطن قد اختطفت جميعا تحت تهديد السلاح، وصارت تلك المرافق تؤدي عكس وظيفتها وجوهر أدوارها، فتحولت إلى مؤسسات الضد وباتت هي الأخرى تستكمل فيها الصورة القبيحة من حال الاستبداد المهين الذي يمارس طقوسه اليومية، فيشوه الحياة ويهدم العمران، وصارت مقولة ابن خلدون قاعدة القواعد وفائدة الفوائد التي تؤكد أن الظلم مؤذن بخراب العمران.

فلم يكن عالم الحوادث الكاشف إلا تمثيلا لتلك العوالم التي تتعلق بعالم أشخاص ظالم وعالم أفكار قاتل، وعالم قيم أصابه الانحلال والانفلات، وعالم أشياء قبيح يعبر عن عالمي الأفكار والأشخاص. وبات هذا العالم بتشكيلاته وشبكاته يؤثر على مفاصل المجتمع وشبكة علاقاته المجتمعية التي تشكل في حقيقة الأمر عناصر رصيد الأمان الاجتماعي والمجتمعي في المجتمع حتى لو زاغت السلطة؛ إلا أن السلطة المستبدة أصرت ومن كل طريق أن تفسد حال المجتمع وتستهدف عموده الفقري وتتآمر على مفاصله الأساسية؛ وتفت في شبكة علاقاته ومؤسساته المجتمعية، فأصرّت على تخريب علاقات المجتمع؛ كما خُرِّبت حالة السلطة من جراء طغيانها وفسادها. وصار هذا الأمر مريبا وخطيرا يحرك كل نوازع العداوة والكراهية داخل المجتمع وكل أحوال اللامبالاة وعدم المسؤولية في جنباته، وصار هذا الرصيد المجتمعي في أمنه وأمانه مستهدفا في علاقاته الآمنة ومفاهيمه الرئيسية وأفكاره الكبرى، وقيمه الجليلة العظيمة التي تشكل مداخل ومسالك لالتئامه وتماسكه.

ومن هنا كان علينا أن ننتقل إلى سلسلة أخرى تستهدف بيان ما تقوم به السلطة الفاشية الطاغية المستبدة العاتية؛ من التخريب المتعمد في شأن المجتمعات والأوطان والمواطنين، وتستهدف المفاصل المجتمعية بكل استخفاف واستهانة وعدم مسؤولية. ولعل الأمر يتعلق بالنظر إلى الشعب وامتهانه والاستخفاف به، والمواطنة وإقصاء كل ما يتعلق بها من حقوق أساسية وتأسيسية في سياقات تتعلق بإحكام علاقات العبد والسيد، فتخرب المجتمع كما خربت السلطة، وتفسد أحواله كما فسدت السلطة، وقامت بكل فعل مؤدي للخراب والدمار.

إن مفهوم المواطنة والمواطن والنظر الجديد الناقض لجوهر هذا المفهوم من أنظمة الاستبداد والانقلابات؛ ومن أحوال العسكر الذين آثروا أن يعسكروا ذلك المجتمع لمصلحة طغيانهم وبطشهم، فبات المجتمع مقهورا، وأفرزت حالة من حالات المواطنة المقهورة وأنماطا أخرى من المواطنة المخذولة والمنقوصة، وهو أمر وجب علينا أن نتابعه في سلسلة جديدة، وكأننا نقوم بطبعة ثانية لكتاب كنا قد ألفنّاه في مرحلة سابقة لما قبل ثورة يناير؛ فتحنا فيه دفاتر المواطنة المصرية وقدمنا بعض نماذج تمثل هدرا ونقضا لها والتي أدت إلى ثورة في 25 من يناير.

ومن هنا يبدو لنا أن معالجة عالم الأفكار مجدولا بعالم القيم وعالم الأحداث وعالم المشاهد والصور؛ تشكل مادة غاية في الأهمية من المهم رصدها وفضح مكنونها وكشف سترها. ذلك أن الكشف والفضح هو أول الخطوات في الفهم والوعي بماذا حدث، وكأن عنوانا لكتاب الدكتور جلال أمين "ماذا حدث للمصريين" يشكل عنوانا يستهدف تشريح الحالة المجتمعية وما أحدثته الحالة الاستبدادية الانقلابية الملعونة.

إن فتح هذا الملف يعبر عن ضرورة للرصد والكشف، بل ضرورة الوقوف على تلك المساحات التي استُهدفت بالتخريب المتعمد حتى يكون لذلك مكان في استراتيجيات كبرى جديرة بالحوار، وجديرة بالاهتمام ووضع الخطط المتعلقة، لتحديد ما يمكن عمله ضمن خطة استراتيجية إصلاحية مستقبلية.

إن الأمر الذي يتعلق باستراتيجيات التغيير الكبير صار أمرا مهما يجب التوقف عنده، وأهم مستلزماته في بناء استراتيجية خطاب شامل ومتكامل ونوعي كاشف لما فسد ويقترح ما يُصلح. ذلك أن ما أصاب هذا المجتمع من تصدعات وفجوات إنما يشكل أكبر خسارة أتت علينا من جراء هذا النظام الانقلابي، ليس ما أصاب شؤون السياسة والحكم، ولكن ما أصاب المجتمع وعموم الناس في مقتل، وهي أمور مهمة ضمن استراتيجيات التغيير والإصلاح.

فإننا في حاجة لحالة من ترميم بل وإعادة بناء لكل ما أصاب هذا المجتمع من تصدعات وفجوات وشروخ وجروح غائرة، وما أصابه من تصدعات وأمراض جماعية واجتماعية مزمنة؛ فيكون ذلك في الحسبان ضمن استراتيجية كبرى تقوم على تقليل الخسائر في المجال المجتمعي والحفاظ على الخمائر في عمليات الإصلاح، والاستعداد للتغيير القادم بإعداد الكوادر المتخصصة في عمليات طب المجتمع لمواجهة تلك الأمراض التي أفقدت المجتمع لُحمته وتماسكه من جراء سياسات ممنهجة ارتكبها المستبدون، وتكوين البصائر الهادفة إلى إحداث حالة وعي؛ وعي بالحال ووعي ممتد بالمآل والاستقبال.. كل ذلك ضمن مشروع يواجه ويفكك منظومة الاستبداد على المستوى المجتمعي، وضمن سياق يهدف إلى استرجاع صحة وعافية المجتمع في كيانه وشبكة علاقاته وأطره القيمية وأفكاره الحية الفاعلة الجامعة الدافعة إلى النهوض والتنمية والرقي وعمران الحياة والمعاش.

twitter.com/Saif_abdelfatah
0
التعليقات (0)