مقالات مختارة

بريمر العراق.. طبعة السودان

ياسر محجوب الحسين
1300x600
1300x600

تتذكرون الدبلوماسي الأمريكي بول بريمر الذي عينه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن رئيسا مفوضا ساميا في العراق بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003. بريمر حلَّ حزب البعث وفكك الجيش العراقي والبنية المؤسساتية للدولة العراقية، وتسبب ذلك في غرق العراق بدوامة حروب وصراعات طائفية ومذهبية لا تنتهي. وعوضا عن الدولة التي كانت قائمة، أوجد بريمر نظاما جعل من الفساد سمة أساسية للمسرح السياسي إلى يومنا هذا.


على النسق ذاته، استغل اللاعبون الدوليون بمساعدة من الداخل سقوط نظام الرئيس عمر البشير في نيسان/أبريل 2019 ليفعلوا بالسودان ما فعلوا بالعراق.


طلب عبد الله حمدوك في كانون الثاني/يناير الماضي من الأمين العام للأمم المتحدة إنشاء بعثة للسودان بتفويض سياسي، يشتمل على مكون عسكري وقوات تدخل خاصة، تحت غطاء الحفاظ على السلام والأمن وإنفاذ الوثيقة الدستورية، والمقصود إعادة هيكلة الجيش والأمن والشرطة ودمج حركات المعارضة المسلحة وكتابة الدستور، على أن يشمل تفويض البعثة كامل التراب السوداني.


على أن يبدأ في أيار/مايو الحالي تدفق 2500 جندي أجنبي الانتشار في طول البلاد وعرضها. حيث جاء خطاب حمدوك للأمم المتحدة صريحا ودون مواربة إذ قال فيه: "ينبغي أن يُنشر وجود أولي تحت قيادة الممثل الخاص للأمين العام الذي يتخذ من الخرطوم مقرا له".


ومما يشير إلى نوايا غير بريئة لدى رئيس الوزراء ومن يدير اللعبة خلف الكواليس، أنه قام بهذه الخطوة منفرداً ودون استشارة مجلس الوزراء ومجلس السيادة، ولم يحظ الطلب بمناقشة مع قوى الحاضنة السياسية للحكومة، مما حدا برئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش الجنرال عبد الفتاح البرهان لعقد اجتماع مشترك، تم على إثره صياغة خطاب جديد للأمين العام للأمم المتحدة بدلا عن خطاب حمدوك الأول، بحيث تقتصر مهام البعثة على الجوانب الفنية فقط لحفظ السلام والمساعدة الفنية والدعم المالي لإجراء التعداد السكاني والانتخابات. بيد أن الخطاب المعدل تم تعمد تعطيله باجراءات روتينية ريثما تكمل الأمم المتحدة الطبخة بناء على خطاب حمدوك الأول.


الغريب أن غاية خطط الأمم المتحدة أن تضع ثقلها خلف مبادرة الاتحاد الأفريقي، الساعية إلى نقل الصلاحيات من المجلس العسكري الانتقالي إلى سلطة بقيادة مدنية تحظى بحماية من الجيش، وهذا ما قاله بريمر السودان الجديد قبل نحو عام، وهو نيكولاس هايسوم المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة حينها وموفده إلى السودان، الذي تقرر بعد ذلك وفقا لطلب حمدوك أن يكون المفوض السامي للأمم المتحدة في السودان، أي الحاكم الفعلي للبلاد بموجب الفصل السادس الذي على أساسه ستعمل البعثة الأممية برئاسته في السودان.


غير أنه ليس من صلاحيات الحكومة الانتقالية اتخاذ قرارات مصيرية مثل طلب بعثة أممية لمدة عشر سنوات، فلم يسمع به الشعب السوداني إلا بواسطة تسريبات الإعلام الغربي. والحقيقة المرة مرارة العلقم، أن خطاب حمدوك تم صياغته بإحكام من قبل دول الترويكا التي تسعى لإنفاذ مخطط استعماري جديد، يهدف إلى تقسيم السودان وتفتيته إلى دويلات صغيرة مجهولة الهوية، لا دور لها وتخضع جميعها لرعاية ووصاية الولايات المتحدة التي تتحكم في منظمة الأمم المتحدة.


إن سماح حمدوك لنفسه بأن يكون أداة لتعريض سيادة الدولة للخطر والانتهاك، يستوجب معها محاسبته حسابا عسيرا.


لقد زعم حمدوك في سياق تبريره لفعلته، أن الأمم المتحدة موجودة في السودان منذ 10 أعوام، بيد أن الأمم المتحدة دخلت إلى السودان في 2007 بالإكراه، وبعد مفاوضات عسيرة وافق السودان بشرط أن تكون بعثة مكونة من قوات أفريقية، وأن تعمل فقط في دارفور حيث تم استبدال القبعات الأفريقية الخضراء بالقبعات الأممية الزرقاء، وذلك بعد رفض الغرب تقديم التمويل للقوات الأفريقية إلا تحت راية الأمم المتحدة.


ومنذ 2014 بدأ السودان مع هذه البعثة بتنفيذ خطة استراتيجية لخروجها خلال خمس سنوات، بعد ثمار اتفاقية سلام الدوحة وانحسار نشاط الحركات المسلحة في دارفور، فصدرت قرارات من مجلس الأمن على تخفيض البعثة التي عرفت اختصارا بـ"يوناميد"، وتقرر أيضا نقل السودان من بند المساعدات الإنسانية إلى بند مساعدات التنمية، وبالفعل بدأ التخفيض المبرمج لهذه القوات، لكن حمدوك طلب التمديد لهذه القوات فتم تجميد التخفيض، وأقدم حمدوك على تلك الخطوة دون اتفاق مع مكونات السلطات الانتقالية في البلاد عسكرية ومدنية، باعتبار مجموعهم يمثل المجلس التشريعي المغيب عمدا.


إن تجارب بعثات الأمم المتحدة السياسية أو العسكرية انتجت مشاكل اجتماعية جسيمة في البلدان التي انتشرت بها كافة، بداية من ألمانيا واليابان، عقب الحرب العالمية الثانية وحتى لجان التحقيق، ولم تكن هناك أي مهمة ناجحة قامت بها لصالح الشعوب التى ذهبت إليها، بل العكس من ذلك تسببت في خراب هياكل الدول وضرب مكونها السكاني، وخربت الديموغرافيا في بعض الدول؛ ومثال ذلك العراق والبوسنة والهرسك التي كانت تحت وصاية الأمم المتحدة ومنظمة الأمن الأوروبية.
وفي أفريقيا، تدخلت الأمم المتحدة في 1999 لمراقبة تنفيذ اتفاق لوساكا بوقف إطلاق النار في دولة الكونغو، الذي وقع بين 6 دول كانت متورطة في الصراع.


لكن هذه البعثة واجهت إخفاقات مالية وأخلاقية، إذ فشلت الأمم المتحدة في توفير نفقات العملية وكانت فقط 400 مليون دولار.


أخلاقيا؛ واجهت البعثة في 2005 نقدا شديدا بسبب 150 اتهاما لأفراد منها تورطوا في الاعتداء الجنسي على الأطفال، والدعارة، واغتصاب المواطنين والانتهاكات الجسدية.


المدهش أنه صدر قرار أممي في كانون الأول/ديسمبر 1960 بشأن أفريقيا، متعلق بمشكلة الاستعمار الذي كانت ترزح فيه، إذ قرر ذلك القرار أو الإعلان؛ أن إخضاع الشعوب للحكم والسيطرة الأجنبية هو إنكار لحقوق الإنسان. ليأتي حمدوك بعد 64 عاما من استقلال السودان عن بريطانيا، ويعيد إليه السيطرة الأجنبية بمسوغات وحجج واهية.

 

(الشرق القطرية)

0
التعليقات (0)