مقالات مختارة

فشل السياسة النفطية السعودية

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

هناك مؤشرات عديدة لفحص قوة الاقتصاد العالمي أو المحلي تطرحها وسائل الإعلام بشكل منتظم، من بينها أسعار الأسهم في البورصات المحلية والدولية، القدرة الشرائية للدول والأشخاص، معدلات التضخم، أسعار العقار وسواها، وكثيرا ما تساءل الأشخاص غير الاقتصاديين مثلي عما تحتويه هذه الصفحات الاقتصادية العديدة في الصحافة اليومية، وهل هناك من أمور اقتصادية قادرة تكفي لملء هذه الصفحات. ولكن الاقتصاديين المتخصصين يجدون في كل سطر منها أهمية خاصة، ويستطيعون قراءة ما بين سطور الأخبار والمقالات. وتحظى وجوه الاقتصاد كافة بالاهتمام والتغطية في وسائل الإعلام.


الأمر المؤكد أن أسعار النفط لا تمثل سوى واحدة من القضايا الاقتصادية التي تهتم وسائل الإعلام بها. ولكن انتشار وباء فيروس كورونا أعاد قضية النفط إلى الواجهة، وأصبحت متابعة شؤونه خصوصا أسعاره همّا ليس لدى الاقتصاديين فحسب، بل المحللين السياسيين أيضا. كان الحديث عن أسعار النفط محصورا عادة بأوقات الأزمات، وكثيرا ما كان مادة للمساومة بين الدول المصدرة للنفط التي تتصارع سياسيا، مثل إيران والسعودية في الوقت الحاضر. هذا بالرغم من أن النفط تسبب بأزمات عديدة، خصوصا خلال نصف القرن الأخير.


فعندما أشار الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز بعد حرب أكتوبر 1973 إلى احتمال «استخدام النفط سلاحا»، تضاعفت أسعاره في غضون فترة قصيرة. كان ذلك بداية ما سمي «الطفرة النفطية» في منتصف السبعينيات، التي نجم عنها توسع اقتصادي في البلدان المنتجة، وضع دول الخليج على الخريطة السياسية الدولية، وأدى لتوسع اقتصاداتها وبداية حقبة «ناطحات السحاب» في عواصمها. يومها لم تكن دولة الإمارات مثلا ذات شأن يذكر، ولكن تراكم ثروتها النفطية دفعها إلى موقع لا يناسب حجمها أو قدراتها الذاتية، الأمر الذي قد يستبطن تراجعا مروعا لدورها، بل قد يهدد تماسكها السياسي ويمزق وحدتها، خصوصا في ظل قيادة رئيس مثير للغط.


اقتصادات دول العالم مرشحة للتصدع بفعل فيروس صغير لا يعرف عنه إلا الشيء القليل؛ فقد أدى انتشار وباء كوفيد- 19 لجعل الأسبوع الماضي «واحدا من أكثر الأسابيع اضطرابا في تاريخ تجارة النفط». لقد انهارت أسعار النفط بمعدلات لم تشهدها سابقا قط؛ فقد هبط سعر البرميل من نفط برنت إلى ما دون 20 دولارا، (بينما بلغ ذروته في العام 2008 حوالي 150 دولارا). في المرة الأولى كان ارتفاع أسعار النفط من بين أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت المشروع الرأسمالي في أخطر دعاماته، النظام المصرفي. بينما حدث العكس هذه المرة، فقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية الناجمة عن انتشار الوباء إلى ضرب أسعار النفط. ساهم في هذه الضربة شبه القاضية قرار سعودي خاطئ جاء في وقت خاطئ لأسباب خاطئة. ففي الأسبوع الثاني من آذار/ مارس، أعلنت السعودية حربا نفطية بعد انهيار تحالف أوبك + روسيا. وقررت زيادة إنتاجها من 10 إلى 13 مليون برميل يوميا.


وفي 7 آذار/ مارس بدأت خفض أسعار النفط الخام للأسواق الخارجية لتوفر خصومات غير مسبوقة للمشترين في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة، لإغراء مصافي التكرير على شراء الخام السعودي على حساب بقية المصدرين. كان واضحا لدى الاقتصاديين والمراقبين أن ذلك قرار خاطئ حيث كانت الدول تتجه للدخول في حجر صحي كامل، وبذلك ستتوقف اقتصاداتها بشكل كبير. وفي 15 آذار/ مارس نشرت وكالة الأنباء الألمانية تقريرا بعنوان: الرياض تطلق النار على نفسها وعلى الأشقاء في سوق النفط، متسائلة: هل ستنجو الرياض والدول العربية الأخرى من تداعيات ذلك، أم ستأتي الحسرة في وقت لا ينفع فيه الندم؟


كان واضحا أن السياسية السعودية تمت بدفع من واشنطن، التي كانت قد بدأت حربها على الصين بعد أن حمّلتها مسؤولية انتشار وباء كوفيد-19، وفي البداية شعرت واشنطن بارتياح كبير لتداعي الأسعار، فقامت بتعبئة كل ما لديها من إمكانات لتخزين النفط الرخيص، وزيادة احتياطها الاستراتيجي بما يكفي لأكثر من ثلاثة شهور. ولكن استمرار تداعي أسعار النفط أدى لأمور ثلاثة:


أولها؛ خسارة المستثمرين الأمريكيين في قطاع النفط خصوصا النفط الصخري الذي يكلف إنتاج برميله أكثر من 25 دولارا. وقد أحدث ذلك ضغوطا على إدارة ترامب لوقف ذلك التداعي. مع ذلك بلغ سعر النفط مستويات أدنى، حتى بلغ أقل من 20 دولارا.


ثانيها؛ امتلاء كل ما لدى أمريكا من إمكانات تخزينية، سواء في الخزانات العملاقة تحت الأرض، أم الناقلات الكبرى في المحيطات. فلم تبق لديها أية طاقة استيعابية في الوقت الذي أصبح انهيار النفط عبئا على الاقتصاد الأمريكي. كما أن تكلفة التخزين تجاوزت سعر النفط نفسه. يقول هوارد ماركس ، الشريك المؤسس لشركة Oaktree Capital Management، لشبكة CNBC، «إن التعقيد النهائي هو أن تخزين النفط يكلف المال، وأن مرافق التخزين محدودة، والتخزين الآن نادر ومن ثم مكلف، لذا لا يستحق شراء النفط اليوم وتخزينه، حيث إن تكلفة التخزين تتجاوز القيمة اليوم، ومن ثم فإن السعر سلبي».


ثالثها؛ أن هذا الانهيار أضعف التحالف الخليجي برمته، وأصبحت دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى تئن تحت وطأة تراجع العائدات النفطية، في الوقت الذي تحتاج فيه لدعم المواطنين الذين فرض الوباء عليهم ترك أعمالهم والبقاء في منازلهم. بالإضافة لصعود أسعار المواد الغذائية بسبب شحتها لأسباب كثيرة، ناجمة عن انتشار الوباء في أنحاء العالم كافة.


وثمة أمور عديدة تؤكد الخطأ الفادح للحسابات السعودية، السياسية والاقتصادية. أولها أن مسؤوليها كانوا يعتقدون أن بإمكانهم استيعاب انهيار الأسعار. فبعد أسبوع من إعلان السعودية حربها النفطية وخفض الأسعار للانتقام من روسيا، قال الرئيس التنفيذي لـ«أرامكو»، أمين الناصر: «باختصار، يمكن لأرامكو التعايش مع السعر الشديد الانخفاض ويمكنها تحمله لفترة طويلة». وقال المدير المالي للشركة، خالد الدباغ، إن أرامكو «مرتاحة للغاية» في ظل سعر 30 دولارا للبرميل: «نحن مرتاحون بأنه يمكننا تلبية تعهداتنا بشأن التوزيعات، ومرتاحون جدا إلى أنه يمكننا بلوغ توقعات مساهمينا عند ثلاثين دولارا (للبرميل) أو حتى أقل».


هذه الأحلام الوردية سرعان ما تبددت. ففي غضون شهر واحد فحسب، بدأت شركة أرامكو السعودية سعيها لاقتراض عشرة مليارات دولار لتمويل شراء حصة في شركة «سابك» الصناعية. ويبدو أن التفكير بقوة وهمية يمثل أهم نوازع الساسة السعوديين للإقدام على خطوات خطيرة، سرعان ما تؤدي لنتائج سلبية. فبالإضافة لخطأ حساباتهم المتكررة (ومنها اجتياح البحرين عسكريا في 2011، شن الحرب على اليمن، استهداف قطر) عندما قرروا إغراق السوق بالنفط، ظهر بشكل واضح خطأ حساباتهم العام الماضي عندما قرروا تعويم «ارامكو»؛ فقد حاولوا تسويق ثمن خيالي للشركة بأكثر من 2 تريليون دولار (2000 مليار) وهو الثمن الذي كان يدور في مخيلة ولي العهد محمد بن سلمان، ولكن في الصيف الماضي قالت المصارف الدولية الكبرى ذات الصلة، إن سعر الشركة يتراوح بين 1.1 و 1.6 تريليون. فقررت الحكومة تعويم 15 بالمائة فقط من الشركة، ولم تستطع تحقيق أكثر من 26 مليار دولار عندما طرحت عبر شركة «تداول» للأسواق المالية.


ماذا يعني كل ذلك؟ بدأت الأزمة عندما رفضت روسيا في بداية الشهر الماضي خفض إنتاجها من النفط، فردت السعودية بزيادة إنتاجها وإغراق السوق، فكانت النتيجة انهيار أسعار النفط إلى أدنى مستوى في تاريخها، حتى بلغ سعر نفط غرب تكساس ـ 37 دولارا (بالسالب)، أي إن المشتري يستلم من البائع وليس العكس، وهي ظاهرة تحدث للمرة الأولى. وسعى الرئيس الأمريكي لاستغلال الوضع، فقام في بداية الأمر بزيادة معدلات المخزون الاستراتيجي، ولكن استمرار تداعي الأسعار جعل سعر التخزين أكثر من سعر الشراء. وهنا ضغط ترامب على السعوديين خفض الإنتاج بالتفاهم مع روسيا. وأخيرا استقر الأمر على خفض الإنتاج بمعدل عشرة ملايين برميل يوميا. ومع ذلك استمرت الأسعار في هبوطها لأن الطلب على النفط انخفض بأكثر من 20 مليون برميل يوميا، نتيجة الوباء وتقلص استخدام النفط. هذه المرة كانت الكلمة الأخيرة لفيروس كورونا الذي فرض نفسه على العالم، ويهدد ببقائه فترة أطول.

 

(القدس العربي اللندنية)

0
التعليقات (0)