قضايا وآراء

عن العَالَم المُتخيَّل والمأمُول

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
يَتزايدُ منذ عقود شعورٌ عاملٌ بأن العالم لم يعد إطارا للعيش المشترك، وأنه فقدَ الحدَّ الأدنى من مُقوماته الجاذبة، التي جعلته، على تعدد حروبه وجسامة مآسيه، قابلا للتعايش والاستمرار. بل إن موجة عارمة من الشك، وفقدان الثقة، وعدم اليقين ما انفكت تخترق أممَه ومجتمعاته، وتدفع بنخبها إلى الجهر بصوت عال بمظاهر التقهقر التي ألمّت بهذا الكوكب البشري، وأدخلت البشرية مدارا تاريخيا قلّ نظيره حتى في عزّ الكوارث، والأوبئة، وتناسُل الحروب. ولا أعرفُ هل من الصّدفة أم من مَكر التاريخ أن وَجدت المنطقة ُالعربية الإسلامية نفسَها في موقع لا تُحسد عليه، من حيث الضعف واستدامة التراجع.

لا يختلف اثنان في أن مظاهر عدم اليقين الذي يَسمُ العالمَ اليوم كثيرةٌ، وواضحةٌ، ولا تحتاج إلى تشخيص، وأن في مُكن الإنسان البسيط ملامستها في معيشه، ورؤيتها في قعوده وترحاله. وهكذا، فقدَ العقلُ بوصلته، وتاهت عنه معالمُه، واستبدت بأصحابه نزعةُ التغوّل في الاقتصاد، والسياسة، وتدبّر أمو التجارة والمال، وغلبت عليهم أهواء الهيمنة، ومراكمة الثروات بغير حق، وخارج سلطان القانون، بل ربما أصبح العالم لدى الكثير منهم عبارة عن سلعة، تخضع تماما لمنطق التسليع.

قد يُسمي البعض هذا التحول الجذري في مسار العالم "الليبرالية الجديدة أو المتوحشة"، وقد ينعتها آخرون بـ"العولمة الجارفة"، وقد يجدُ لها طرف ثالث إطارا نظريا للفهم فيُكيّفها على أنها قوس جديد في تطور البشرية، سرعان ما يستقيم ويعود إلى حالته الطبيعية. ففي الواقع، ومهما كانت التسميات التي تُلصق بالعالم لفهم طبيعته الراهنة، يحتاج عالمُنا، كما نعيش فيه اليوم، إلى تغيير عميق في فلسفته، ورؤيته لمكوناته، وطرق تدبير شؤونه، وتدبّر مصالح أطرافه.

فعالم اليوم ما زال سجين ماضيه وتاريخه، على الأقل منذ تشكّل النظام الدولي مستهل القرن السابع عشر، وصدور معاهدة "وستفاليا" عام 1648، كما أنه ما زال محافظا في عمق تفكير قادته وفاعليه الرئيسيين، على الرؤية التي صاغها فلاسفته خلال القرون الفاصلة ما بين السابع عشر والتاسع عشر، أي توازن أوروبي- أوروبي أولا، وقيادة "أوليغارشية" غربية ما بعد الحربين الكونيتين الأولى والثانية لاحقا. وحتى حين زال الاستعمار العسكري المباشر وتحررت الكثير من الأقطار وتم إحداث الأمم المتحدة، ظلت الرؤية واحدة، مستمرة ومستحكمة في صنع السياسات الدولية، وعجزت المكونات الأخرى الناشئة، بما فيها المنظومة الاشتراكية وما سمي "دول عدم الانحياز"، عن التحول إلى أنداد للغرب وقيادته "الأوليغارشية". لذلك، تُرجَعُ مصادر تفسير مآلات العالم اليوم (كما دافع عن ذلك الفرنسي برتران بادي "Bertrand Badie")، إلى إلغاء أوروبا والغرب لمفهوم "الآخر" أو "الغير"، واستبعاده على مدار كل هذه القرون من دوائر صنع السياسة الدولية، وتحديد قواعد وآليات اشتغالها. ومن هنا كانت صرخته المدوية والعميقة التي جعلها عنوانا رئيسا لكتابه "لم نعد وحدنا في العالم".

إن الدعوة إلى إعادة صياغة فلسفة العالم ليكون للآخر موقع في صنع سياساته، وتَدبُّر شؤونه، تستلزم أولا الاعتراف بوجود أطراف متعددة ومتنوعة، وتشترطُ ثانيا بناءَ جسور الثقة والحوار فيما بينها لإدراك المشترك الإنساني. وبدون هذا السبيل سيظل عالمنا أحاديَ الرأس المفكر، وإن تعدد أطراف الجسم المشتغل والمتفاعل.

لقد ساعد خلال ما سمي "الحرب الباردة" (1947- 1989)، أن هناك ثنائية قطبية، متوازنة ومُشتَركَة في صُنع سياسات العالم، والحال أن العالم عاش حالة من "الاستقطاب الدولي"، أكثر منها "قطبية ثنائية"، إذا نظرنا إلى جوهر الأمور من زاوية من يملك سلطة القرار وريادة القيادة، ومن حافظ عليها مستمرة وفاعلة حتى اليوم. وإذا توخينا التدليل أكثر على واقعية هذا المسار، نشير إلى أن وجود منظومة اشتراكية إلى جانب المنظومة الليبرالية أو الرأسمالية، لم يكن يعني حصول تكافؤ في الأوزان على مستوى صنع القرار، والتحكم في تفاصيل الحياة السياسية الدولية، وإن تمكن المعسكر الاشتراكي أو الشرقي من تكوين تكتل جغرافي وسياسي وعسكري، واستقطب إليه دولا من مناطق متعددة في العالم. كما أن القوى الناشئة في دوائر الدول المستقلة حديثا، أو الصاعدة مثل الصين وبعض أقطار أمريكا الجنوبية، لم تستطع اختراق "نادي الكبار"، أي "الأوليغارشية الأوروبية والغربية"، بل استمرت تابعة لمناطق النفوذ، أو في أقصى الحالات متأرجحة بين المنظومتين.

لذلك، تكمن خطورة استمرار العالم مهيمنا عليه من قبل "الأوليغارشية" الأوروبية والأطلسية (الأمريكية)، في تفاقم الاختلالات التي طبعت العالم منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وازدادت استفحالا خلال الألفية الجديدة، وما زال إيقاعها متصاعدا حتى اليوم، ولا يُقنع الزمن المنظور بإمكانية توقف هذه الاحتلالات.

ولعل أغلبنا لا يختلف حول ما آلت إليه أوضاعنا، على كل الصعد، وفي كل المجالات: ضعفت قيمة العدالة في نظمنا الداخلية وفي عالمنا، وتوارت نزعات الإنسان الأصيلة في التسامح، وحب الخير العام، وقبول الآخر، وتجردت معاملات الناس من الأخلاق، وأصبحت مُقادة بمنطق الربح والكسب السريع، وغلب على مخاطباتنا معجم أقل ما يقال عنه أنه أقل ذوقا وتهذيبا، وفُتحت أبواب دولنا ومؤسسات تدبير شؤونها العامة والمصيرية لأكثر الناس تفاهة.. إن العالم المتخيل والمأمول مطالب بأن يؤسس على رؤية جديدة غير تلك التي سادت منذ قرون ولا زلنا سجناء لها، وسيصنعه قطعا الأسوياء الأذكياء، غير السفهاء التافهين.
التعليقات (0)