هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الناس على دين ملوكهم، أينما ولوا كانوا على شاكلتهم. كما أنها مقولة من أمثال العرب المشهورة التي فاضت بها كتب الأدب ودواوين الشعر: الناس على دين ملوكهم، الناس أتباع من غلب، إذا تغير السلطان تغير الزمان.
ومن الأقوال المشهورة لسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، أي يصلح على يديه ويغير في الناس أكثر مما يصلح ويغير القرآن؛ لأنه قدوة، ولأن بيديه أدوات المكافأة وعصى التأديب، فالناس على نهجه؛ إن خيرا فخير، وإن شرا فشر؛ فكما كان فرعون كافرا مستبدا، كان قومه على هذا الضلال المبين، يقول الله تعالى: "وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى" طه: 79
كذلك العصاة الفسقة من الضعفاء المحكومين، يكونون تبعا لكبرائهم المجرمين؛ من أجل ذلك يلقون باللوم عليهم ساعة الحساب يقولون: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67].
والناس مهما أوتوا من قوة فهم أضعف من حكامهم ذوي الجاه والسلطان، لذلك هم دوما الضعفاء.
وهذه الآيات كلها تؤيد معنى المقولة الأولى، بأن الناس على دين ملوكهم وسادتهم.
ذكر البخاري رحمه الله بأن امرأة سألت أبا بكر رضي الله عنه - قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟
قال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم. قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى. قال: فهم أولئك على الناس.
لكل هذا وغيره، كان من أسباب خشية النبي (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين حُكم الأئمة المضلين كما في الحديث: وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة.
وكذا قال عمر رضي الله عنه لزياد بن حدير: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين. رواه الدارمي 214، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح 269.
يقول الشيخ رشيد رضا: وقد مضت سنة الاجتماع في تقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم، فكل ما راج في سوقهم يروج في أسواق الأمة، وإذا كان حديث (الناس على دين ملوكهم) لم يُعرف له سند يصل نسبه ويرفعه، فمعناه صحيح وهو ضروري الوقوع في الحكومات المطلقة الاستبدادية.
ويُجمل هذا ابن كثير في قوله: "كانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول: ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟ وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟ وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن، وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك، يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ والناس يقولون: الناس على دين مليكهم، وإن كان جوادا كريما شجاعا كان الناس كذلك، وإن كان طماعا ظلوما غشوما فكذلك، وإن كان ذا دين وتقوى وبر وإحسان كان الناس كذلك.
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أيضا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعدما أن أرسل إليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غنائم الفرس على كثرتها وعظمتها، إن عمر لما نظر إلى ذلك قال، إن قوما أدوا هذا لأمناء. فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت.
وما أصدق قول أبو العتاهية:
ما الناسُ إِلَّا مَعَ الدُّنيا وَصاحِبِها ... فَكَيفَ ما انقَلَبَت يَوماً بِهِ انقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت ... يَوما عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا
وقد يقول قائل: هناك مقولة مشهورة يظن كثير من الناس بأنها حديث نبوي: كما تكونوا يُولَّ عليكم، تخالف معنى الناس على دين ملوكهم.
الجواب: أولا: لا تصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ثانيا: كما أن معناه غير صحيح في ظل أنظمتنا المستبدة، التي تُحَمِّل الشعوب مسؤولية ما نزل بهم من استبداد وقهر وذل، حتى يُبرر للحاكم الجائر، وأنه جزء من هذا الشعب.
إذن، المطلوب أن نغض الطرف عن الحاكم الجائر ونقتصر فقط على تغيير انفسنا والمجتمع، وحتى هذا التغيير لن يرضى به الحاكم لأنه سيهدد مصالحه، وهذا ما حدث عندما انتفضت الشعوب بعد زمن طويل من التغيير التراكمي المتدرج، وكانت محتاجة لشرارة توقد الثورة، وهذا ما حدث، وإلا لن تقوم انتفاضة أو ثورة من عدم أو دون مقدمات، وهذا ما نراه اليوم في السودان الآن.
عَلَّق الشيخ الألباني بقول نفيس قال: ثم إن الحديث معناه غير صحيح على إطلاقه عندي، فقد حدثنا التاريخ تولي رجل صالح عقب أمير غير صالح والشعب هو هو!
لذلك قال جمال الدين الأفغاني قولته المشهورة :كما يولّ عليكم تكونون.
ونختم بمقولة قيمة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله: كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس أو ترضيهم بالدون من المعيشة أو تقنعهم بالهون في الحياة أو تصبرهم على قبول البخس والرضا بالدنية، فهي دعوة فاجرة يراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة، فهي خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام، وافتراء على الله.
إن الفجر سيطلع حتما، ولأن يطوينا الليل مكافحين أشرف من أن يطوينا راقدين.