مع انهماكها في القضايا المحلية وشعورها بالإرهاق بسبب مشاكل الشرق الأوسط وقناعتها باستقرار أوضاع حلفائها العرب، توقفت واشنطن عن الاهتمام بما يجري في مصر. إلا أن ما يحدث في هذا البلد العربي الأكبر سكانا، الذي يعدّ حليفا أمنيا مهما للولايات المتحدة بات يبعث على الذعر، حيث يعمل الرئيس عبد الفتاح السيسي على الدفع بمصر نحو حالة من الطغيان، تفوق ما كان سائدا في عهد حسني مبارك، وفي سبيل ذلك تراه يمهد لمزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة ككل، التي نالها من تلك الزعزعة الكثير، والكثير جدا حتى هذه اللحظة.
مباشرة بعد أن أصبح السيسي، وهو قائد عسكري سابق، رئيسا لمصر بعد انقلابه الذي أطاح في عام 2013 بحكومة الإخوان المسلمين، التي جاءت عبر انتخابات حرة ونزيهة، على الرغم من عدم ليبراليتها، تبنت مصر دستورا يشتمل على بعض الضمانات الرسمية للحقوق وآليات متواضعة لمراقبة السلطة الرئاسية. وحينها زعم أشد المؤيدين للسيسي بأن تلك كانت مؤشرا على أنه كان بصدد إعادة الديمقراطية للبلاد. إلا أن السيسي قضى السنوات القليلة الأخيرة وهو يتجاهل الدستور، ويجمع مزيدا من الصلاحيات ويضعها في قبضته، ويقمع بوحشية خصومه الإسلاميين وكل من تسول له نفسه مساءلته أو التشكيك فيه.
والآن، من خلال عملية استحواذ على السلطة تذكر بأيام جمال عبد الناصر، يقود السيسي مصر إلى مجال أكثر خطورة، إذ يسعى إلى إدخال تعديلات دستورية من شأنها أن تقنن بشكل رسمي للمنظومة الدكتاتورية التي يتربع عليها.
بالنسبة للمصريين، تلك بالطبع أنباء سيئة. ولكنها أيضا تطورات تشكل خطرا على المنطقة، بل وعلى العالم بأسره. وعلى الرغم من أن الأنظمة السلطوية التي تركز السلطة في شخص حاكم واحد، قد تبدو راسخة ومستقرة، –وخاصة عندما يكون ذلك الشخص مدعوما بقوة عسكرية كما هو حال السيسي–، إلا أنها أكثر عرضة من غيرها من أنماط الحكم للانهيار الذي يولد حالة من الفوضى العارمة.
من شأن التعديلات الدستورية التي يريد السيسي إدخالها على دستور عام 2014 أن تعزز بشكل هائل سلطاته بطرق ثلاث. أولا، سوف تلغي المطلب الموجود حاليا، الذي يشترط تركه لمنصبه في عام 2022، أي بعد ثمانية أعوام في الحكم، وستمكنه من البقاء في السلطة حتى عام 2034. سوف يبطل هذا التعديل تعهد السيسي باحترام المكسب الوحيد الباقي من انتفاضة عام 2011 ضد ثلاثة عقود من دكتاتورية حسني مبارك، وهو المكسب الذي تم بفضله تقييد الرؤساء بفترتي حكم مدة كل واحدة منهما أربعة أعوام. والأهم من ذلك أنه لا يوجد مطلب شعبي لمدّ فترة حكم السيسي، بل على العكس تماما، ثمة مؤشرات متزايدة على ضيق الناس من حكمه القهري.
ثانيا، سوف تسلم التعديلات الدستورية السيسي صلاحية التحكم الكامل في تعيين المناصب العليا في الجهاز القضائي وحتى التحكم بميزانيات ذلك الجهاز. من شأن ذلك أن يقضي على آخر ما تبقى للنظام القضائي من استقلالية، وذلك أنه على الرغم مما تعرض له الجهاز من إضعاف وتقويض خلال السنوات الأخيرة، إلا أنه مازال يشتمل على عدد قليل من القضاة الشجعان الذين لديهم الاستعداد للدفاع عن سيادة القانون.
وأخيرا، سوف تمنح التعديلات الدستورية القوات المسلحة المصرية صلاحية التدخل في السياسات المحلية، بحجة "الحفاظ على الدستور والديمقراطية" وكذلك "حماية مكونات الدولة الأساسية". قد يبدو للوهلة الأولى أن هذا البند من شأنه أن يعزز قدرة الجيش على تقييد الرئيس، ولكن نظرا لأن السيسي من خلال استخدام المحفزات والمنافع الاقتصادية والترهيب والفصل من المناصب الوظيفية، قد تمكن خلال العام الماضي من تعزيز قبضته على القوات المسلحة، فإن من شأن التعديل في واقع الأمر أن يقيم حرزا امبراطوريا ممكنا دستوريا لحماية السيسي من أي، بل ومن كل، معارضة.
ولضمان ذلك، وحتى دون إدخال أي تعديلات دستورية، تمكن السيسي من الاستحواذ على صلاحيات واسعة جدا، بفضل العديد من القوانين التي سنت منذ عام 2013، بل لقد بلغ الأمر به أن يرى في ذاته زعيما معينا بإرادة إلهية، وأن يعدّ نفسه المخلص الوحيد لمصر، مما يجعله بحاجة إلى سيطرة شمولية لحماية الدولة من الانهيار. ومن خلال إضفاء شرعية دستورية على ما اجتمع له من هيمنة طاغية، يسعى السيسي لجعل أي تحد قانوني أو سياسي ناجح لحكمه في عداد المستحيل، وذلك على الرغم من أن دكتاتوريته تبدو مصبوغة بلمسة من الشرعية الدستورية في أعين الجماهير الغربية الساذجة.
بالنسبة للسيسي، يُعدّ توقيت هذه التعديلات غاية في الأهمية، فهو على الأغلب يرغب في ضمان تحصين ما بيده من صلاحيات قبل أن يأمر في وقت لاحق من هذا العام بالمزيد من الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة، مثل تخفيض قيمة العملة ورفع المزيد من الدعم عن السلع الأساسية. فمثل هذه الإجراءات من شأنها أن تفاقم المشقة الاقتصادية التي يعاني منها الناس أصلا وتزيد من سخطهم على نظامه.
بالإضافة إلى ذلك، قد يرغب السيسي القيام بهذا التحرك بينما لاتزال الولايات المتحدة مطاوعة له. وما يسعى إليه بالذات هو الحصول على مباركة تامة من رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، الذي يعدّه أهم أبطاله ونموذجه الذي يحتذي به، بينما لايزال الزعيم الأمريكي في منصبه.
قد يتساءل أولئك الذين لديهم اطلاع على تاريخ مصر المعاصر الذي لا يكاد يخلو من سلطوية لا تنقطع عما إذا كانت مثل هذه التعديلات تغير من الأمر شيئا. لا شك أن التعديلات الدستورية الجديدة تشير إلى شيء مقلق، من حيث إنها تمثل خطوة مهمة في مأسسة نظام السيسي السياسي الجديد، وهو نظام أقرب بكثير إلى الشمولية والطغيان مما كان عليه نظام مبارك.
لا يقصد من ذلك التقليل من وطأة ما كان يمارس من قمع واضطهاد في أثناء فترة حكم مبارك، إلا أن الزعيم السابق كان على الأقل يفوض آخرين باتخاذ بعض القرارات، وكان يسمح بقليل من الهامش للمؤسسات المدنية وللمجموعات المستقلة داخل المجتمع المدني، وأنشأ دائرة متنوعة إلى حد ما يرتكز إليها نظامه. ولعل منظومته شبه السلطوية تلك هي التي مكنته من البقاء في الحكم ثلاثين عاما، قبل أن يحيط به قمعه وفساده ويقضيان عليه في نهاية المطاف.
يعمل السيسي في المقابل على إيجاد نظام أكثر دكتاتورية وأكثر تقييدا للحريات، وفي الوقت نفسه أضيق شعبية، ومن ثم أكثر هشاشة. وإذ يعدّ السيسي أن مبارك كان لينا أكثر من اللازم، فقد عمد إلى وضع الكيانات المدنية مثل البرلمان والجامعات تحت السيطرة التامة للأجهزة الأمنية التي حشتها بالموالين المذعنين لها. لقد سحق تماما على كل نشاط سياسي مستقل وقضى على سيادة القانون ولم يبق منها ولم يذر، وعاقب بشدة كل من تجرأ على التجاوز والمخالفة. وبعد أن تخلص من شبكة الموالين الواسعة نسبيا في عهد مبارك، من منتسبي الحزب الحاكم والوجهاء المحليين ونخب قطاع التجارة والأعمال، راح السيسي يحكم من خلال زمرة صغيرة من المتملقين داخل المؤسسة العسكرية ووكالة المخابرات (بما في ذلك أولاده حسبما يشاع). بل يتجاوز ولعه في ممارسة السيطرة على النمط العسكري –حتى إنه أصدر مؤخرا مرسوما يحدد الألوان التي تطلى بها المباني–، ما كان لدى مبارك من حماسة للتدخل في إدارة كل صغيرة وكبيرة.
سوف تزيد تعديلات السيسي الدستورية هذا الوضع السيئ سوءا، من حيث إنها ستحصن سلطته الشخصية الهائلة ضد أي تحد قانوني، وتغلق الباب تماما على إمكانية حدوث تداول سلمي على السلطة، ناهيك عن السماح بوجود تعددية سياسية أو مؤسسات دولة مستقلة. إلا أن مثل هذا التركيز للسلطة في يديه، الذي يقصد منه حماية نظام حكمه، قد يتسبب في تعريض النظام لمزيد من المخاطر عبر الزمن.
فقد أثبتت العلوم السياسية –وكما هو جلي من نماذج معمر القذافي في ليبيا وصدام حسين في العراق– بأن أنظمة الحكم الفردية أكثر عرضة من غيرها من أشكال الحكم السلطوي، لأن تؤول إلى الفناء في أجواء من العنف الشديد. فهذه الأنظمة تقوم على مؤسسات جوفاء وعلى قاعدة شعبية ضيقة جدا. وبسبب ما يطغى عليها من حكم مركزي فاسد وفاشل، ونظرا لأنها تقصي كل أولئك الذين لا يدينون بالولاء الكامل للزعيم، وتحول دون وجود أي صمامات أمن سياسية وتغلق الطرق تماما على وسائل التغيير السلمي، تصبح هذه الأنظمة وصفة لوضع تشعر فيه أعداد ضخمة من المواطنين بالتضرر والسخط والرغبة في الانتقام.
ما من شك في أننا أمام لحظة مفصلية بالنسبة لمصر، وكذلك بالنسبة للسياسة التي تنتهجها الولايات المتحدة. فعلى الرغم من أن أهمية مصر بالنسبة للولايات المتحدة تضاءلت نوعا ما خلال العقود الأخيرة، إلا أن تعداد سكان البلاد الذي يقترب من مائة مليون نسمة وموقعها الاستراتيجي وعشرات المليارات من الدولارات، التي تتلقاها على شكل مساعدات وأسلحة من الولايات المتحدة، كل ذلك يمنحها أهمية دائمة. ومع ذلك، ما يزال الصمت هو السمة الطاغية على موقف واشنطن من السلطوية المتفاقمة في مصر، إلا أن الولايات المتحدة لا يسعها تجاهل السعي الحثيث للسيسي نحو السلطة المطلقة، وما يمثله ذلك من مخاطر على استقرار مصر والمنطقة بأسرها.
ينزع السيسي إلى تجاهل النقد الوارد من الخارج لما يمارسه من قمع، بل ويعدّ مثل هذا النقد تدخلا أجنبيا في الشؤون المصرية لا يمكن التسامح معه، وذلك على الرغم من أن نظامه في واقع الأمر يعتمد بشكل كبير على التمويل، وعلى الدعم الدبلوماسي والمساعدات الأمنية الواردة من الخارج. ما يزال لدى واشنطن نفوذ في مصر باعتبارها أقوى شريك أجنبي تحظى به القاهرة. كان السيسي يصد الرئيس السابق باراك أوباما، أما ترامب فيملك التأثير عليه بفضل ما يربط الرجلين من علاقة أفضل، والشيء نفسه ينطبق على المشرعين الأمريكيين الذين يملكون القول الفصل في حزمة المساعدات العسكرية التي تحصل عليها مصر سنويا وتبلغ 1.3 مليار دولار. ينبغي على البيت الأبيض وعلى الكونغرس الإقرار بأنهم يدركون ما يمارسه السيسي في السلطة والإعلان، أنهم سوف يرفضون منحه أي غطاء سياسي أو أي دعم غير مشروط طالما استمر في النهج نفسه. من الواضح أنه لا يوجد ما يضمن أن تتمكن الولايات المتحدة من ردع السيسي عن التلاعب بالدستور سعيا لمنح نفسه صلاحيات لا تخضع للمساءلة، ولكن بالنظر إلى الأخطار المحدقة، فمن المحتمل أن يتوقف صانعو السياسة في الولايات المتحدة ليتأملوا في الأمر، ويخلصوا إلى أن الإخفاق في محاولة ردعه قد يشكل ما يعدّ فرصة ضائعة وخطأ جسيما.
ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن مجلة فورين بوليسي