هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
«أعتذر لكم عن أي تقصير وقصور بدر مني خلال مدة خدمتي، وأشكر الشعب الإيراني والمسؤولين»، بهذه الكلمات عبّر وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن استقالته، الدبلوماسي الهادئ والسياسي المحنك، أحد الأوجه الناعمة لسياسة إيران الخارجية، لما عرف عنه من حنكة سياسية استطاعت أن تجلب لإيران اتفاقا نوويا، كان بعيدا عن منال الولي الفقيه، ويكفي أن كيسنجر عندما أهداه نسخة من كتابه، كتب عليها «إلى عدوي الذي يستحق الاحترام»، للدلالة على محوريته وقوة شخصيته.
كما أن
استقلاليته السياسية أعطته هامشا للمناورة السياسية، قلما تمتع بها أسلافه من
وزراء خارجية إيران السابقين، ولكن يبدو أن عقلية الثورة لا تنفك تطغى على عقلية
الدولة في إيران، ومن نتائجها أن أعلن استقالته عبر تطبيق الإنستغرام، ليتضح لنا
كم هو ظريف حتى في تقديمه للاستقالة.
بعد
هذه المقدمة ينبغي لنا النظر في طبيعة المشهد السياسي الإيراني، الذي أصبح حديث
الساعة، والذي يبدو أنه بدأ في إبراز نتائج تتصف وستتصف في وجهها العام بالغموض
وعدم اليقين، فزيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران كانت مفاجئة، واستقالة
ظريف كانت صدمة، بما يعني أن إمكانية الحديث عن مستقبل التحولات السياسية في إيران
سيكون قريبا من التكهن أكثر من التوقع، فلا يمكن الحديث عن سياسة إيران الخارجية
ما بعد ظريف، طالما أن إيران اليوم تبدو لا تأبه بعواقب المواجهة مع المجتمع
الدولي، فالرئيس روحاني نفسه قد يتعرض لسيناريو مشابه لسيناريو ظريف، فجهود
استجوابه في مجلس الشورى الإسلامي ما زالت مستمرة، ودعوة الرئيس الإيراني السابق
أحمدي نجاد لسحب الثقة منه وتشكيل حكومة انتقالية، لا تخرج عن كونها دعوات لإعادة
صياغة المشهد السياسي في إيران، بالشكل الذي يلبي متطلبات المواجهة مع الولايات
المتحدة الأمريكية.
فقد
ذكرت صحيفة «شرق رزنامة» المقربة من التيار الإصلاحي في إيران في وقت سابق، بأن
التيار المحافظ، ومعه أركان الدولة العميقة، اقتنعا بأنه إذا ما استمرت الأمور على
ما هي عليه داخليا وخارجيا، فإن شخصية رئيس الجمهورية القادم ستكون عسكرية، وهو ما
عبر عنه حسين الله كرم، الأستاذ في الجامعة الحرة الإسلامية، بأنه ينبغي أن تكون
شخصية عسكرية استراتيجية، ووضع العديد من الخيارات ضمن إطار هذه الشخصية، كقاسم
سليماني (قائد قوة القدس)، ومحسن رضائي (القائد السابق للحرس الثوري الإيراني
ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام)، إلى جانب محمد باقر قاليباف (قائد سابق لسلاح
الجو في الحرس الثوري ولمقر خاتم الأنبياء وعمدة طهران حاليا)، إلى جانب شخصيات
أخرى قد تكون قريبة من تفكير التيار المحافظ، كحسين دهقاني أو مسعود جزائري
وغيرهما، ويبقى قاسم سليماني هو الأقرب والأكثر حظا بين هذه الشخصيات، بحكم
علاقاته داخليا مع أركان الدولة العميقة، وحتى خارجيا، مع مختلف التيارات السياسية
والحركات المسلحة التي تدور في الفلك الإيراني.
ورغم
تعدد الأسباب التي بحثت في الخلفيات التي دفعت ظريف لتقديم استقالته، يبدو أن هذه
الاستقالة إشارة إلى أن هناك شرخا كبيرا يعاني منه النظام السياسي الإيراني اليوم،
ففي الوقت الذي كان يدعو فيه ظريف لضرورة أن تتعاطى إيران مع الشروط الأوروبية
بمزيد من الجدية، خرج المرشد الأعلى علي خامنئي ووجه أشد عبارات النقد إلى
الأوروبيين، واعتبرهم شركاء مع أمريكا في محاولة تدمير إيران، كما أنه من أشد
الداعمين إلى ضرورة أن توافق إيران على الانضمام لاتفاق باليرمو لمكافحة غسيل
الأموال ودعم الإرهاب، إلا أن هذا أيضا جعله في مواجهة مباشرة مع الحرس الثوري
الإيراني، ويبقى الإشكال الأكبر في رغبته الملحة بضرورة إبعاد السفارات الإيرانية
عن أنشطة فيلق القدس المثيرة للشك، وحادثة اعتقال السفير الإيراني في كينيا يوم 24
فبراير 2019، بعد محاولته تهريب اثنين من عناصر فيلق القدس الإيراني العاملين في
السفارة الإيرانية في نيروبي، مثال واضح على ذلك، فهو من الداعين لضرورة الحفاظ
على عمل الخارجية الإيرانية، في إطار السياقات الدبلوماسية المعروفة، إلا أنه لم
يفلح في ذلك.
ولابد
من الإشارة إلى أن السبب الرئيس الذي يقف خلف هذه الاستقالة، هو طبيعة التعاطي مع
ملفات السياسة الخارجية الإيرانية، وهنا نتحدث عن الثنائية التي طبعت سياسة إيران
الخارجية منذ عام 1979، ما أصاب السلوك السياسي الإيراني بالكثير من الشلل، وإثارة
الشكوك من قبل اللاعبين في البيئتين الإقليمية والدولية، ففي الوقت الذي يستخدم
فيه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لغة التعاطي مع الآخرين، باعتماد وسائل
دبلوماسية، نجد جنرالات الحرس الثوري ومستشاري المرشد الأعلى يستخدمون لغة التهديد
والوعيد، وفي الحقيقة عندما يتم النظر إلى منهجية السياسة الخارجية الإيرانية، نجد
أنها تنبع من خطين أساسيين، الأول المتمثل بالخط الذي يمثله التيار المحافظ
المدعوم من القيادة الدينية، والثاني التيار الإصلاحي المدعوم من القيادة
السياسية، وإن الحكومة التنفيذية والوزارات التابعة لها ظلت تعمل بهذه الطريقة،
يضاف إلى ذلك كله أن أعضاء مجلس المستشارين الخمسة المرتبط مباشرة بالمرشد الأعلى،
الذي يضم: كمال خرازي، علي أكبر ولايتي، علي شمخاني، محمد شريعتمداري ومحمد حسين
تارامي، هو المسؤول عن رسم خريطة السياسة الخارجية الإيرانية وتسليمها إلى خامنئي،
في ظل غياب واضح لجواد ظريف.
ورغم
محاولات ظريف المستمرة لإثبات استقلالية سياسته الخارجية بعيدا عن صراع التيارين
المحافظ والإصلاحي في إيران، إلا أنه لم ينجح في ذلك أيضا، فلكل تيار وجهة نظر
خاصة في أولويات إيران الخارجية، التي قيدت بدورها الكثير من تحركات ظريف
الخارجية، ونذكر من ذلك محاولات جهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني العودة
بالمفاوضات النووية إلى المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، وسحب الملف من يد
الخارجية الإيرانية، أضف لذلك اتهام الكثير من الشخصيات السياسية في فريق ظريف
التفاوضي مع الغرب، ومنهم عبدالرسول دري أصفهاني، ممثل البنك المركزي الإيراني،
وحسين موسويان الأستاذ الزائر في جامعة برنيستون الأمريكية، وغيرهم بالتجسس
والخيانة، وكل ذلك من أجل عرقلة جهود ظريف للتوصل إلى صفقة نووية نهائية مع القوى
الكبرى، لتأتي مسألة ضرورة انضمام إيران لمعاهدة حظر غسيل الأموال، ودعم الإرهاب،
لتشعل الصراع مرة أخرى، ولتضع مزيدا من العقبات في طريق ظريف، ولابد من الإشارة
إلى أن محاولات ظريف الأخيرة، في إثبات أن وزارة الخارجية الإيرانية هي المتحكمة
في سلوكيات إيران الخارجية، وليس الحرس الثوري، باءت بالفشل هي الأخرى، فزيارة
ظريف الأخيرة إلى بغداد وبيروت، ومحاولاته سحب ملف النفوذ الإيراني في هذين
البلدين من يد فيلق القدس، وإرسال رسالة للمجتمع الدولي بأن إيران تتعامل بسياقات
دبلوماسية طبيعية مع دول الجوار، جعلت جنرالات الحرس الثوري الإيراني يستشعرون خطر
هذه الخطوة الأخيرة، التي قد تعني بصورة غير مباشرة إمكانية التفاوض بشأنها مع
الولايات المتحدة الأمريكية، التي وضعت 12 شرطا للتفاوض مع إيران، ومن ضمنها إعادة
النظر في سلوك إيران الإقليمي في هذه البلدان.
إن
الصراع السياسي المحموم في إيران هو ما كبل الوزير ظريف، وهو ما عبر عنه صراحة في
بيان الاستقالة، ولتوضيح ذلك فعند تحليل السياسة الخارجية الإيرانية التي يعتمدها
التيار المحافظ يبرز دور المرشد الأعلى، وعلى الجانب الآخر عندما يتم تحليل
السياسة التي يعتمدها التيار الإصلاحي يبرز دور الرأي العام، ولهذه الأسباب فإنه
وبشكل عام نجد هذه الثنائية «المحافظ والإصلاحي» موجودة في السياسة والإعلام، وحتى
في طريقة التفكير، وفي إدارة السياسة والإستراتيجية، ومن أجل فهم أكثر لهذين
الخطين، فلابد من متابعتهما بكل قطاعات الدولة، ونحتاج لمعرفة تفاصيل جيدة عنهم،
وعلاوة على ما تم ذكره فإن الكلمة الأخيرة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الإيرانية
تعود للمرشد الأعلى، خصوصا في ظل الظروف الإقليمية الراهنة، فإنه من الطبيعي أن
يطغى الخط الذي يمثله المرشد الأعلى على السياسة الخارجية، وفي الحقيقة فإنه منذ
البداية لم توجد هوية حقيقية للرئيس حسن روحاني ومعه التيار الإصلاحي فيما يتعلق
بالسياسة الخارجية، ورغم النجاحات التي حققوها في المفاوضات النووية، إلا أن فشلهم
في إقناع المرشد الأعلى والحرس الثوري في أهمية التعاطي بجدية مع هذا الاتفاق، جعل
من التيار الإصلاحي محط استياء الرأي العام بعدم قدرتهم على العودة، كما أنه أعطى
أكثر من مبرر لعودة المتشددين والعسكر إلى الواجهة الإيرانية من جديد، كما أن
روحاني هو الآخر أصبح خاضعا لضغوط داخلية كبيرة، وبعد استقالة ظريف سيبقى المدافع
الوحيد عن الاتفاق النووي، والداعي لتغليب لغة الحوار مع المجتمع الدولي، فمرحلة
ما بعد ظريف ستفرض تداعيات كبيرة على السياسات الإيرانية داخليا وخارجيا.
ومهما
تحدثنا عن الشخصية التي يمكن أن تحل محل ظريف على رأس الخارجية الإيرانية، إلا أنه
من غير المتوقع أن يحصل مزيد من التغيير في سلوكيات إيران الخارجية، فالمرشد
الأعلى والحرس الثوري، يرغبان في انقضاء فترة ترامب الرئاسية الأولى على هذا
الوضع، بدون أي تنازلات تقدمها، وأي وزير خارجية قادم لا يستطيع أن يغير شيئا،
طالما أن المرشد ومجلس المستشارين الخمسة هم المخططون لسياسة إيران الخارجية، نعم
قد يصح القول بأن العودة للواقعية الدفاعية قد يكون العنوان الأبرز لسياسة إيران
الخارجية، إلا أن إيران تدرك جيدا ثمن هذا التوجه.
وإذا ما سلمنا بالرأي الذي يقول، بأن استقالة ظريف هو ثمن بقاء
روحاني على رأس الحكومة في إيران، إذ لم يعد من الممكن التعامل مع جناح سياسي في
إيران، بدأ يتماشى مع طروحات الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية، بل أصبح
مقتنعا بضرورة أن تقدم إيران تنازلات جوهرية للحفاظ على ديمومة النظام السياسي في
إيران، ولعل هذا ما يفسر غيابه عن اللقاء الذي جمع بين بشار الأسد من جهة، وخامنئي
وروحاني وسليماني من جهة أخرى، وكما أشار موقع «انتخاب» الإيراني إلى أن مراسله
أرسل رسالة قصيرة إلى جوال وزير الخارجية المستقيل محمد جواد ظريف يستفسر منه عن
أسباب استقالته؟ فجاءه الرد من جوال ظريف يقول: «بعد صور لقاءات اليوم لم يكن
لمحمد جواد ظريف مكانة في العالم كوزير للخارجية»، في إشارة إلى لقاء الأسد بخامنئي
وروحاني وسليماني، ما يعكس طبيعة العزلة التي يعيشها الوزير ظريف اليوم، مع
التأكيد بنهاية كل ما تقدم أن إمكانية عودته إلى منصبه مازالت قائمة.
عن صحيفة القدس العربي