هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتكرر الحديث مع كل ثورة تقوم من أجل حياة كريمة وعدالة أحاديث
الخروج على الإمام وبأن الخروج عليه غير جائز.. وكان الأولى الحديث عن الحاكم
الجائر الذي خرج على شروط الشعب الثائر وظلمهم وأخل بواجباته.. لقول النبي صلى
الله عليه وسلم: المسلمون على شروطهم؛ إلا شرطاً حرمًّ حلالاً أو أحل حراماً. رواه
الترمذي وقال حسن صحيح.
كما
ان اجتزاء أحاديث معينة دون النظرة الكلية للإسلام وانزاله على واقعنا.. قد أدى
إلى الكثير من التخبط ولقد استفاد منه الطغاة الظلمة في تبرير ظلمهم واخضاع شعوبهم..
وهناك
خلط بين مفهوم الخروج والمظاهرات..
مثلا:
إذا أطلق مصطلح (الخروج) في الفقه السياسي الإسلامي فالمراد به غالبا ( الثورة
المسلحة) لا المظاهرات السلمية ولا وسائل التغيير السلمية الأخرى كالعصيان المدني.
المظاهرات:
ويمكن تعريفها بأنها:( صورة من صور الحسبة السياسية، تنفذ بأسلوب جماعي، عن طريق
اجتماع طوائف من الشعب في مكان عام، للتعاون على إبداء الرأي وإظهار المعارضة
للحكومة).
والمظاهرات
ومثلها الاعتصامات والإضرابات وسائر وسائل الإنكار الجماعي والمعارضة الشعبية
الجماعية تعتبر من الوسائل ومن الآليات الفنية التي لا يشترط فيها أن يكون الشرع
قد ورد بها، ولكن يشترط فيها فقط أن تحقق المصلحة وألا تصادم أصلا شرعيا أو حكما
شرعيا، ومن ثم فإن هذه الوسائل والآليات التي تندرج في العادات، إنما يلتفت إلى ما
فيها من المعاني، وهي تتغير- بحسب الظروف والأحوال وبحسب الملابسات والأوضاع- من
زمان لآخر؛ وتخضع إلى قواعد السياسة الشرعية.
وخلط بين نظام الحكم في عهد الدولة الإسلامية والتي يحكمها خليفة
وامام واحد.. وبين النظام الحديث الذي نعيشه في واقعنا الحالي.. يجب أن نرى بنظرة
كلية للأحاديث في سياقه الزماني والمكاني لفهم مراده بشكل صحيح...
فحديث:
إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. ومثله حديث: إنه ستكون هنات، فمن أراد أن
يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان.
ومثله
حديث: من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم
فاقتلوه. روى ذلك كله مسلم في صحيحه.
وفي
الحديث دليل على منع إقامة إمامين أو خليفتين لأن ذلك يؤدي إلى الشقاق والمخالفة،
وحدوث الفتن وزوال النعم..
اذن
كيف نطبقها على عصرنا الحاضر وعلى حكامنا؟
الأحاديث
تتكلم عن خليفة المسلمين أي امام واحد للمسلمين.. وأين واقعنا من هذا؟ هل الحاكم
الفلاني في دولة ما هو امام المسلمين.. بالطبع لا .. إذن كيف تطبقون أحاديث الخروج
على الإمام في عصرنا الحاضر.. وهذا في رأيي هو سبب هذا الخلط..
نحن
نعيش في عدة دول قسمت بمعاهدة سايكس بيكو المشؤومة وبعدة رؤساء يحكموننا.. وكل
دولة لها دستور وقانون يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم .. فالدستور مثلا حدد
الانتخابات كنظام لاختيار الرئيس لمدة معينة وبشروط معينة لاستمراره في الحكم وإذا
أخل بهذه الشروط يتم عزله بموجب إجراءات معينة.. وهذه مساحة تركها الإسلام للعقل
البشري ليحدد ما يصلحه ويناسب زمانه هذا مثله كقوانين المرور أو القوانين الخاصة
بالشركات.. كلها اجتهادات بشرية.. إلا أن الإسلام ركز على القيم كالحرية والعدالة
والشفافية والمراقبة والمحاسبة.. وترك للمسلمين تحديد الوسائل المناسبة التي تحقق
هذه القيم.
إذن رئيس الدولة موظف لخدمة الشعب ومتى ما أخل
بواجباته يتم محاسبته بإجراءات متفقة
عليها وقد يتم عزله على حسب القانون.. وهذا ما يحدث في الدول المتقدمة.
ومثال
آخر من واقع حياتنا لتقريب المسألة إلى الأذهان.. مثلا في الشركات رئيس مجلس
الإدارة يواجه بالمحاسبة في كل سنة من خلال جمعية عمومية ويتم مناقشة التقارير
الواردة وغيرها من الأمور.. ويتم بعدها انتخابات جديدة لاختيار مجلس جديد..
قد
يقول قائل... لكن علينا أن نتعظ بما حدث للربيع العربي في بعض الدول من فوضى
وتدمير للدولة..
نقول:
بنفس المنطق.. تجارب مشاهدة.. نجحت الثورة في السودان مرتين.. عام 1964 و 1985..
نجحت
الثورة في تونس.. وكذلك مصر إلا انها لم تكتمل.. ونجحت من قبل في إيران عام 1979 ..
ومن
قبل نجاح الثورة الفرنسية بعد طول صراع مع الاستبداد والتي كان لها الأثر الكبير
على الدول الأوربية.
ولقد
تقدمت الثورة في اليمن واستقر أمرها.. إلا أن تحالف علي صالح مع الحوثيين وبدعم من
دول الجوار والإقليمي وتمردهم على الشرعية لإقصاء حزب الإصلاح.. واستغلال الحوثيين
هذه الفرصة فدخلوا صنعاء بسهولة... ثم توجهوا إلى عدن .. وهنا انقلب السحر على
الساحر..
وكذلك
تقدمت الثورة في سوريا .. فدخلت إيران ثم حزب الله اللبناني .. وأخيرا روسيا
لمواجهة الثورة.. ألا يدل هذا على قوة الثورة السورية..
وليبيا
على نفس المنوال.. فتم إحضار حفتر وبدعم من دول الجوار والإقليمية والدولية..
على
العموم لم ينتهي مشهد الثورة .. حتى نحكم عليه حكما نهائيا.. مضى فصل من فصول الثورة
ومرحلة من مراحلها..
إذن
الخوف من سفك الدماء والفوضى محتمل وقد يكون واردا أيضا.. ولكن تكلفته لن تكون
أغلى من الحرية.. وإلا كيف تحررت دولنا من الاحتلال؟ الجزائر قدمت مليون شهيد من
أجل حريتها؟ وكذلك باقي دولنا قدموا الكثير من الشهداء لنيل حريتهم.. هل نقول ما
كان ينبغي عليهم أن يحاربوا الاحتلال لعدم التكافؤ مثلا وهذا يؤدي إلى الكثير من
سفك الدماء..؟! وإلا لبقينا تحت الاحتلال إلى الآن..
والآن
التحالف في حربه على اليمن لإرجاع الشرعية.. أليس هناك سفك للدماء؟ فما رأي
العلماء الذين يحرمون الخروج خوفا من الفوضى وسفك الدماء؟..
كلمة
أخيرة: لمن لا زال يرى أن أحاديث الخروج على الإمام تنطبق على رؤساء الدول في عصرنا
الحاضر .. ستبقى "مسألة الخروج" مسألة نسبية، خاضعة للموازنة
المصلحية وللتقدير السياسي، أكثر منها حكما شرعيا ثابتا لا تؤثر فيه المتغيرات؛
فليس هنالك نصا شرعيا حاسما يمنع من الخروج إذا كانت المصلحة فيه راجحة، كما أن
النصوص الشرعية الآمرة بتغيير المنكر وتقويم اعوجاج السلطان مقيدة بنصوص أخرى تنهى
عن تغيير المنكر إذا كان سيؤدي تغييره إلى منكر أكبر منه.
ولا
يفوتنا هنا أن نقول إن الفقهاء الذين أفتوا بمنع الخروج بإطلاق، لما يسببه من دماء
يتجاهلون قضيتين أساسيتين:
أولهما: أنه لا سبيل إلى إقامة الحق إلا بمغالبة الباطل، وقد يكون
ثمن ذلك دماء يبذلها المسلمون في سبيل محاربة الباطل وإقامة الحق، ولذلك شرع
الجهاد رغم ما فيه من تلف للنفوس ولكن لا سبيل إلى رفع دعائم الحق إلا به.
والثانية:
أن الفقهاء الذين يمنعون الخروج، ويعللون ذلك بكونه فيه سفك للدماء وقتل
للنفس التي حرم الله إلا بالحق، يتجاهلون أن الإسلام جاء لحفظ ضروريات خمس: أولها
الدين، وأن النفس تبذل في سبيل الحفاظ عليه، وأنه إذا ضيع الدين واستبيح حماه فلا
معنى للحفاظ على النفس عندئذ إلا الجبن والقعود.
فائدة
قيمة لابن القيم:
" فمن كان ظهيراً للمجرمين من الظلمة على ظلمهم؛...ليتخلَّص
بمظاهرتهم من ألم أذاهم.. أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلاً وآجلاً أضعاف أضعاف ما
فرّ منه، وسنَّة الله في خلقه أن يعذبهم بأيدي من أعانهم وظاهرهم".
[شفاء العليل، ابن القيم : 1218/ 3]