هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد أن نقلت وكالة رويترز يوم الأربعاء الماضي خبر إلغاء الطرح المحلي والعالمي لعملاق الطاقة العالمي شركة أرامكو السعودية وتسريح المستشارين الماليين لعملية الادراج، وتحول المملكة عوضا عن ذلك نحو الاستحواذ على حصة استراتيجية في شركة سابك للبتروكيماويات السعودية، جاء نفي ذلك الخبر على لسان خالد الفالح وزير الطاقة السعودي والرئيس التنفيذي السابق لشركة أرامكو، قائلا إن الحكومة لا تزال ملتزمة بالطرح وفق الظروف الملائمة وفي الوقت المناسب الذي تختاره الحكومة، ولكن هذا النفي يبدو فضفاضا ويكرس حالة الغموض لدى الأسواق بشأن حالة الطرح برمته.
وعلى أية حال، وأيا كانت الأسباب وراء التراجع عن طرح أسهم أرامكو أو تأخيرها إلى أجل غير مسمى، فهو من وجهة نظري قرار اقتصادي صائب، وتصحيح لقرار اقتصادي كان خاطئا أساسا، بغض النظر عن أسباب التراجع الآن، وأعتقد أنه قرار لا رجعة فيه بغض النظر عن النفي، ولا أتصور كيف سيتم طرح أسهم شركة استراتيجية بحجم أرامكو لمستثمرين أجانب!
كما لا أعتقد أن تحول
التركيز نحو الاستحواذ على حصة مصنع محلي في شركة سابك السعودية هو السبب الحقيقي
خلف التأجيل أو الإلغاء، بل هو حجة ولكن الأسباب الحقيقية تختلف عن ذلك وهي أسباب:
(1) اقتصادية بحتة و (2) جيواقتصادية تتصل بمخاطر على الأمن القومي للاقتصاد
السعودي.
كما أن الأغرب في الموضوع
هو اقتراض الصندوق السيادي السعودي من الأسواق الدولية، إذ تشير وكالة رويترز
وصحيفة فايننشال تايمز إلى أن الصندوق السيادي السعودي اقترض 11 مليار دولار من
بنوك عالمية لسد "الثغرة التمويلية" للصندوق، بعد تجميد الطرح الأولي
لأرامكو، بالإضافة إلى تمويل خارجي ضخم محتمل بقيمة 70 مليار دولار على شكل اقتراض
أو إصدار سندات لدعم استحواذ أرامكو على حصص لسابك، يمتلكها صندوق الثروة السيادي
السعودي.
ومن الواضح أن المملكة تسعى من هذه الخطط والإجراءات لتغطية مبلغ ال 100 مليار دولار التي كان من المفترض أن يولدها طرح 5% من أسهم أرامكو في الأسواق، ولكن ذلك لم يكن ممكنا. ومن المفترض ان يكون هدف الصناديق السيادية هو الاستغناء عن الاقتراض، وتركيم رؤوس الأموال وعوائد النفط في أوقات الفوائض والطفرات لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في أوقات تراجع أسعار النفط والانكماش، وتمويل العجوزات، لتحفيز النشاط والنمو الاقتصادي، أي باختصار إدارة الدورة النفطية، ومواجهة الأزمات، بالإضافة إلى الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، وهو حفظ حقوق الأجيال القادمة في الثروة النفطية الناضبة.
وكما ذكرت في مقابلة
سابقة لي مع شبكة الجزيرة منذ ما يقارب العام، أن قرار بيع أسهم من شركة أرامكو في
الأسواق الدولية كان خطأ فادحا، وها نحن نشهد بدايات التراجع عن هذا القرار.
وأقول إنه كان قرارا خاطئا لسببين أو من جهتين، اقتصاديا وجيو اقتصاديا أو
استراتيجيا، أي لما قد يشكله من مخاطر على الأمن القومي للاقتصاد السعودي، وهذا
ما سيتم التركيز عليه أكثر لأنه لا يحظى بالاهتمام الكافي، في حين ينصب تركيز
المحللين ووسائل الإعلام على الجانب الاقتصادي.
وكما ذكرت سابقا أن
أرامكو هي الدجاجة التي تبيض ذهبا للسعودية، فأرامكو هي السعودية، وبيع أرامكو هو
بمنزلة بيع السعودية.
ولكن لماذا؟ وقد يقول البعض إن طرح نسبة 5% من أسهم الشركة في الأسواق الدولية هي نسبة قليلة، ولن يكون لها تأثير على الأمن القومي للاقتصاد السعودي. وأقول حتى لو كانت نسبة ضئيلة، فمن الممكن أن تدخل السعودية مستقبلا في تعقيدات هي في غنى عنها – تعقيدات قانونية – على سبيل المثال هناك تشريع جاستا الذي قد يستغل من قبل أي جهة متضررة في رفع قضايا مستقبلا ويكون لها تأثيرات سلبية كبيرة على الشركة وعلى المملكة، وقد يكون هذا هو سبب العدول عن فكرة طرح أسهم الشركة. كما أن طرح أسهمها للمستثمرين الأجانب، سيتيح لهم الاطلاع على معلومات قد تكون حساسة للأمن القومي للاقتصاد السعودي، كالاطلاع على خطط وقرارات الاستثمار والإنتاج والأصول والاحتياطيات وغير ذلك. والطرح في الأسواق العالمية سيتطلب على أية حال قدرا كبيرا من الشفافية والإفصاح عن أوضاع الشركة (المالية والاستثمارية... إلخ)، ولا أعتقد أن المملكة على استعداد لذلك الآن.
اما اقتصاديا، فقد كانت
هناك مبالغة كبيرة كما ذكرت في مناسبات سابقة في تقييم سهم الشركة عند وضع الخطة،
التي وضعت عليها الآمال الكبيرة لجمع أموال طائلة للصندوق الاستثماري السعودي، وكانت ركيزة مهمة في رؤية 2030 ولكن اتضح بعد ذلك أن الطرح لن يأتي إلا بنصف
المبلغ المستهدف أو المخطط له، أي 50 مليار دولار فقط (إذ كان تقييم الشركة ب 2
تريليون دولار، ولكن القيمة الحقيقية هي في حدود 1 تريليون دولار).
وقد عانت المملكة خلال
الفترات الأخيرة من بعض التخبط والعشوائية في القرارين الاقتصادي والسياسي على حد
سواء – رأينا تصدعا في العلاقات مع دول مؤثرة اقتصاديا على الساحة العالمية، كان
آخرها كندا، وقبلها ألمانيا، وانعكاسات ذلك بشكل واضح وامتدادها إلى مجال
الاستثمار والاقتصاد والتعليم كما رأينا في حالة كندا، بالإضافة إلى عدم الوضوح
والتردد في قرار طرح أرامكو نفسه، وكان آخرها تصريح الفالح الأخير ذاته الذي يعزز
الغموض والالتباس، وهذه كلها بلا شك تثير قلق المستثمرين وتضعف الثقة والمصداقية
في الاقتصاد السعودي وفي صانع القرار وفي قابلية السياسات الاقتصادية للاستدامة،
وهذا مهم جدا لخلق مناخ جاذب للاستثمار.
بالإضافة إلى ذلك، كان
ولا يزال أداء الاقتصاد السعودي ضعيفا ومخيبا للآمال – على مستوى النمو وارتفاع
عجز الميزانية، مع استمرار حرب الاستنزاف في اليمن؛ هذه عوامل كلها تضعف الثقة
وترسل رسائل سلبية عن الاقتصاد السعودي على مستوى الأداء ومستوى صنع السياسات، مما
ينعكس سلبا على الاستثمارات الأجنبية في المملكة، وعلى إقبال المستثمرين على
الأصول السعودية وعلى قيمها.
إذن على الأرجح أن إلغاء
خطة طرح أسهم أرامكو لعاملين؛ جيواقتصادي واقتصادي، أي العامل الأول وهو ما يشكل
مخاطر أو تهديدا للأمن القومي للاقتصاد السعودي، وأنا أعلم أن هناك العديد من
الاقتصاديين وصناع القرار في المملكة ممن كانت لهم ملاحظات على طرح أسهم أرامكو في
الأسواق الدولية، وخالد الفالح وزير الطاقة لم يكن متحمسا لطرح أسهم أرامكو في
نيويورك، وكان يفضل طرحها في لندن. ولكن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هو من كان
متحمسا لطرحها في نيويورك، على ما يبدو استجابة لطلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
الذي عبر صراحة وعلنا عن أمله في طرح أسهم أرامكو في نيويورك.
وقد عبر الفالح في مقابلة
مع شبكة سي أن أن في شهر آذار/مارس الماضي عن قلقه من بعض الدعاوى التي أقيمت في
نيويورك على بعض الشركات النفطية بسبب تأثيرها على الاحتباس الحراري، وقال بصراحة إن أرامكو كبيرة جدا ومهمة للمملكة لتتعرض لمثل هذه المجازفة، لكن أعتقد أن
المجازفة الحقيقية التي يقصدها الفالح، هي بسبب تبعات تشريع جاستا المحتملة على
المملكة في هذا السياق.
أما العامل الاقتصادي فهو
كما ذكرنا، من مبالغة كبيرة في تقييم سهم أرامكو، بالإضافة إلى عدم الوضوح والتخبط
في السياسات الاقتصادية وأيضا السياسية، وتأثيرهما على مناخ الاقتصاد والاستثمار،
وضعف أداء الاقتصاد السعودي، وهي عوامل تنعكس سلبا على ثقة المستثمرين في استدامة
السياسات الاقتصادية للسعودية والاقتصاد السعودي.
عن صحيفة الشرق القطرية