بعد الثلاثين من يونيو كانت خيارات الباحثين في مجال العلوم السياسية صعبة، فبعد الإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين بعد مظاهرات شعبية أيدت تدخلا عسكريا أنهى حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى، وما تلى ذلك من إجراءات دستورية وقانونية على خلفية عنف سياسي واسع بين الدولة والإسلاميين بلغت قوته ذروتها في يوم 14 أغسطس، حيث تم فض اعتصامي رابعة والنهضة بالقوة، وما تلاه من أعمال إرهابية موسعة تسربت تدريجيا من سيناء إلى الوادي واستهدفت على مدى السنوات الأربع الماضية جنود الجيش والشرطة وعددا من الكنائس، فحصدت –ومازالت- أرواح أقباط مصريين.
كان الباحثون السياسيون في وضع صعب للغاية، فمن لحظة الجدل حول توصيف إعلان 3 يوليو (ثورة/انقلاب)، مروا بلحظة التفويض والفض وإجراءات دستور 2014 والموقف من إعلان وزير الدفاع السابق - الرئيس الحالي - عبدالفتاح السيسي الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية كان الخناق يضيق تدريجيا على الباحثين وكانت المكاسب النسبية التي تحققت بعد 25 يناير تتبخر يوما بعد يوم!
تعرض الباحثون في حقل العلوم الاجتماعية بشكل عام وفي حقل العلوم السياسية بشكل خاص للعديد من الخسائر، يمكن تحديد بعضها فيما يلى:
أولا: خسارة الاستقلالية: كانت الخسارة الأفدح هي خسارة الاستقلالية النسبية التي تمتع بها حقل العلوم السياسية بعد ثورة يناير، بحيث أصبح ثمن الاستقلال باهظا، فالدولة/السلطة عادت لسيرتها الأولى ورفضت أي هامش حقيقي للعلوم السياسية والاجتماعية للحركة المستقلة، وعادت معايير تعريف باحث السياسة «الوطني» تقاس بمدى تبنيه لخطاب السلطة حتى لو كان هذا الخطاب مناقضا لأبسط نظريات العلم ومخالفا لكل أدوات ومناهج البحث، أصبحت الاستقلالية وصما بالخيانة ومرادفا للمؤامرة ومن يصر على موقفه عليه إذن أن يدفع الثمن!
ثانيا: خسارة الاستقرار الوظيفي: وهذه كانت خسارة أخرى كبيرة للباحثين في الحقل، ولهذه الخسارة أسباب كثيرة، في مقدمتها إغلاق الكثير من المشاريع البحثية التي كانت قائمة منذ 2011 بدعوى الوجس والريبة أو «الظروف الاستثنائية»، أو ضمن الحملة الممنهجة التي استهدفت المجتمع المدني بشكل عام، وهو ما أدى إلى تعليق العمل في بعض المراكز البحثية والقيام بالحد الأدنى من الأنشطة في بعض المؤسسات البحثية والأكاديمية وغيرها، مع هروب رأس المال البحثي من عقول بحثية وتمويلات مادية لبعض دول الجوار مثل لبنان والأردن وبعض دول الخليج العربي التي قدمت فرصا بديلا للبيئة المضغوطة في مصر! وإذا كانت هذه ظروف الباحثين الذين أمضوا بعضا من الوقت في المهنة مدشنين أسماءهم في المجال، فإن صغار الباحثين أصبحت فرصهم أقل بكثير ومواردهم أكثر محدودية!
ثالثا: خسارة الإبداع: فلأن العمل البحثي في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية ليس مجرد وظيفة روتينية ولكنه يتطلب بعض المهارات الخاصة في القراءة والكتابة، التحليل والعرض، التفكير والتخطيط، فإن الكثير من الباحثين المبدعين في مجال العلوم السياسية قد هجروا البحث العلمي في مصر، بل وبعضهم غادر المنطقة بأثرها، كما أن البعض الآخر قد ظل في مصر ولكنه لم يعد يرغب أو يقدر على استغلال واستخدام القدرات الإبداعية هذه إما لأن الإبداع وللأسف في الظروف السياسية الحالية أصبح مصدر تهديد لصاحبه، فالأفضل العمل بالحد الأدنى من المهارات، أو لأن الطاقات تم استنزافها فلم تعد هناك مقدرة على تجديد هذه الطاقة النفسية اللازمة للإبداع البحثي والعلمي.
رابعا: خسارة القضية: فقضية العلوم السياسية العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص، كانت المساهمة في إنشاء بيئة سياسية ديمقراطية تتمتع بالحد الأدنى اللازم من التعددية والتمثيل والرقابة والتوازن في أطر قانونية ودستورية تسمح بتطبيق النظريات والنظم والمناهج الحديثة بحيث تخرج هذه الأخيرة من مجرد نظريات جامدة تصم من أجل الامتحانات أو لاعتبارات الوجاهة في التفاعل مع الباحثين الغربيين إلى مرحلة التطبيق العملي! فهناك فرق كبير بين أن أقوم بتدريس نظريات ومناهج النظم السياسي الغربية -مثلا- لطلاب العلوم السياسية في مصر باعتبارها فيلما سينمائيا يحمل حبكة درامية تتناول فانتازيا غير معاشة تتحدث عن برلمانات ودساتير وانتخابات ونظم للتمثيل والرقابة والتوازن، وبين أن أدرس لهم ذلك في واقع مقارن معاش خارج حدود قاعات البحث والدراسة، يسمح للطلاب والباحثين الجدد بلمس هذه الحقائق في حياتهم السياسية المعاشة ومن ثم القدرة على المساهمة في تراكم علمي مصري/عربي أصيل! أما وقد انهزمت بوادر ما بدا أنه نظام ديمقراطي مصري بعد الثلاثين من يونيو فقد انهزمت معها العلوم السياسية في مصر لأنها خسرت قضيتها!
خامسا: خسارة الضمير البحثي: ليس من قبيل المبالغة ولا حتى المثالية أن نقول إن البحث العلمي يجب أن يتمتع بحد أدنى من الضمائر الحية، لسنا في المدينة الفاضلة ولم نعد حتى ننشدها، لكن البحث العلمي السليم يتطلب حدا أدنى من الضمائر الحية، هي الضمائر التي تضمن الحد الأدنى من النزاهة البحثية التي توفر بدورها الحيادية المطلوبة في إجراء البحوث بتجرد نسبى يمنع استخدام الأدوات والمناهج لتحقيق مكاسب خاصة أو مؤدلجة، للأسف خسرت العلوم السياسية -مع تأكيد وجود بعض الاستثناءات- هذا الضمير النزيه المتجرد، إما مات الضمير لصالح التقرب من السلطة الجديدة والحصول على مكاسب في المعادلة السياسية الجديدة، أو تنحى لصالح أكل العيش والحفاظ على حد أدنى من المعيشة الكريمة أو حتى المستورة، أو قرر غض الطرف عن الكثير من الموبقات البحثية التي أصبحت ترتكب من هنا وهناك لصالح السلامة الجسدية والنفسية وتجنب التعرض للإيذاء من السلطة والمجتمع!
هناك العديد من الباحثين في مجال العلوم السياسية والاجتماعية يقبعون في السجون الآن بسبب كتابتهم وأبحاثهم تحضرني هنا أسماء مثل هشام جعفر وإسماعيل الإسكندراني وغيرهما، والبعض الآخر لا يستطيع العودة إلى البلاد للتخوف من الملاحقة الأمنية سواء كانت هذه الملاحقة حقيقية أو متخيلة، وكذلك لا يستطيع البعض الآخر الخروج من البلاد، والجماعة البحثية في مجال العلوم السياسية -إن جاز أن نتحدث عن فرضية وجود هكذا جماعة- تعجز أن تتخذ أي مواقف موحدة أو حتى متماسكة، بل وقرر البعض ولأسباب تتعلق بضغوط الأقران peer pressures أن يبحث عن فرصة بجوار السلطة لأنه يرى بعض الزملاء هنا وهناك يرتقون اجتماعيا وسياسيا وهم لا يتمتعون بالكثير من المهارات الأفضل منه على الأقل، فهو أو هي إذن أولى بهذا الترقي من غيره!
في مرحلة ما بعد 30 يونيو حاول بعض الأساتذة والباحثين في مجال العلوم السياسية والاجتماعية الحفاظ على هذا القدر المنشود من الاستقلال، أذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر أساتذة مثل بهجت قرني، حازم حسنى، إبراهيم عوض، دينا الخواجة، أشرف الشريف، هبة رءوف وغيرهم، بالإضافة لبعض الأسماء الأخرى التي ذكرتها في مقالاتي السابقة، وكلهم بقوا في مصر أو في المنطقة محاولين الحفاظ على هذا الاستقلال والنزاهة والموضوعية البحثية ولكن وبكل أسف فإن هذا لم يعد كافيا لا كما ولا كيفا لإنقاذ العلوم السياسية من هزيمتها في الواقع المصري!
في تقديري فإن هذه الهزيمة مؤقتة وليست دائمة، أو بمسحة درامية من الممكن أن نقول إنها هزيمة معركة وليست هزيمة حرب! لكنها في تقديري هزيمة ستطول وعلى الباحثين في حقل العلوم السياسية تهيئة أنفسهم للتعاطي مع هذه الأوقات البحثية العصيبة الطويلة، ولكن ما الذي يمكن فعله لتقليل آثار هزيمة العلوم السياسية؟ ما الذي أصبح متاحا أمام باحثي العلوم السياسية الأصغر سنا؟ وما هو واجب أصحاب الخبرات من الباحثين الأكبر سننا في هذه السياق؟ كلها أسئلة أحاول المساهمة في الإجابة عليها الأسبوع القادم لو سمحت ظروف النشر ومساحته بذلك.
الشروق المصرية