مقالات مختارة

هدية بوتين.. والصلاة في البيت الأبيض

1300x600
اهتمت وسائل الإعلام بحديث رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو في لقائه بالرئيس الروسي بوتين، الخميس الماضي، عن الأحداث الجارية في سوريا وتداعيات مشاريع التسوية المطروحة، وغابت قضية الشعب الفلسطيني عن المشهد، لولا إشارة بالغة الدلالة تكشف حدود وحقيقة "الاختلاف" بين الروس والإسرائيليين.

الإشارة "الدالة" هي إهداء الرئيس بوتين نتنياهو كتاب "حرب يهودا" للمؤرخ اليهودي يوسفوس فلافيوس، الذي عاش في القرن الأول الميلادي.

ووصفت وكالة "سبوتنيك" الروسية الكتاب بأنه أثمن المصادر لتاريخ "يهودا"، وأصدق رواية لتمرد سكانها على الحكم الروماني، فالمؤلف شاهد عيان على تلك الحقبة.

والهدية لا تخفي تأييد موسكو لمزاعم الصهيونية في أرض الكنعانيين، وغض الطرف عن سياسة ابتلاع الأرض ومحاصرة أهلها، ووضع العراقيل أمام كل محاولات إنهاء مأساة الشعب الفلسطيني، وتأتي أهمية الإشارة، على الصعيد العملي، من تزامنها مع صعود الصوت الأمريكي، في البيت الأبيض، المؤيد لسياسات اليمين الإسرائيلي مع تراجعه، عمليا، عن "مشروع السلام" الذي قبله الفلسطينيون على رغم حيفه، وأيدته الدول العربية في المبادرة المعروفة.

ونتنياهو، يعيش حال نشوة غامرة، نتيجة ما يلقاه من ترحاب في واشنطن وموسكو، ويرى أنها "الفرصة التاريخية" لتصفية القضية وإملاء الشروط، ولم يستطع أن يخفي مشاعره حين قال: "إنها المرة الأولى في حياتي، وللمرة الأولى في حياة بلدي أن أرى الدول العربية لا ترى إسرائيل عدوا، ولكنها تراها حليفا".

وهذه الحفاوة التي يلقاها نتنياهو، في موسكو وواشنطن، أعادتني إلى مقالة كتبتها قبل 20 عاما في صحيفة "المدينة" (20-2-1997)، تعليقا على زيارة نتنياهو لواشنطن، إبان رئاسة كلينتون، قلت بالنص: "عاد نتنياهو من رحلته إلى واشنطن بالدعم الأمريكي غير المشروط.

وشعر بحسب وصف أحد مرافقيه أن رحلته كانت زيارة "عائلية"، مكنته من السكن في "بلير هاوس"، واستقبال ضيوفه من الوزراء الأمريكيين ورجال الكونغرس كما يفعل في بيته في تل أبيب، وكان بإمكانه أداء الصلاة اليهودية في البيت الأبيض دون الحاجة إلى وجود إسرائيلي واحد (الصلاة اليهودية لا تتم إلا بوجود عشرة يهود).

هذه الرحلة ونتائجها لم تفاجئ إلا الذين تفرحهم الدهشة وتسعدهم الصدمات للإحساس بالظلم وتعليل النفس بالخديعة، فسيدة النظام الجديد والدولة الأقوى لا تخفي شغفها بإسرائيل وخضوعها لابتزاز نتنياهو، رمز الشخصية الإسرائيلية بكل عقدها وصلفها واستغلالها لعناصر قوتها ونقاط ضعف الآخرين.

وحكومة الرئيس بيل كلينتون، في دورتها الثانية، تبدي من العطف والسير في مرضاة و"دلع" الحليفة المدللة ما لم تقوَ عليه أي إدارة أمريكية منذ قيام إسرائيل، وحددت هذه الإدارة أولوياتها في المنطقة العربية على لسان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط بيليترو في نقاط خمس:

تحقيق سلام شامل بين إسرائيل والدول العربية، الالتزام بأمن إسرائيل وسلامتها، ضمان الاستقرار في الخليج والممرات التجارية لنفطه، دعم المصالح الاقتصادية الأمريكية، ومواجهة الإرهاب وحصر انتشار أسلحة الدمار الشامل.

والمصيبة أن العرب مطالبون بمراعاة "مزاجية" الليكود و"دلاله" حتى يبرهنوا على الإقرار بالنظام الجديد، بل مطالبون بالمودة الصادقة لا المجاملة أو المسايرة أو المداراة أو الرضا بالواقع، والتسليم بلحظة الضعف وشروطها، سلوك مثل هذا لا يقبله النظام الجديد، بل المطلوب هو "الصداقة" التي يفهمها العرب على أنها علاقة بين متكافئين، وتريدها إسرائيل علاقة بين منتصر قائد ومنهزم تابع".

وتساءلت، يومها: "هل يقتصر الفعل العربي، في هذه المرحلة، على ندب الحال، أم يواجهون نتيناهو بما يستحقه من استنفار القوى التي تقلل من خسائر "الصراع" في مرحلة السلام.

والصراع كلمة مقصودة في هذا السياق، لأن العقلية الصهيونية المؤسسة على التعاليم التلمودية المحرفة، تؤمن بأن الحياة تنهض على "بنية" الصراع، وأن مشروعية الشعب "المختار" نتاج انتصار في معركة مع "إله" مزعوم.

فهل نتوقع نحن "الأميين" أن تكون علاقتنا مع إسرائيل علاقة مودة وصداقة متكافئة؟ على الذين يحلمون أن يقتصدوا في النوم حتى لا يستيقظوا على الكوابيس، الهدف ليس لوم الذين يعملون على تقليل دواعي الكراهية المتراكمة في الثقافة تجاه الصهيونية ومخططاتها، لكن المسعى هو مطالبة القادرين بتوفير "المعلومة" عن "الصديق الذي لا بد منه"، وبثها في الوقت والصورة الملائمين للمحتاجين إليها والراغبين فيها.

فمما يستوجبه الظرف وتدعو له الضرورة أن نسأل، ماذا يعرف المهتم بالشأن السياسي عن مكونات الرأي العام الإسرائيلي وتأثيره في صياغة القرار في مراكز القيادة؟

وهل يُعنى قادة الرأي في وسائلنا الإعلامية بدراسة مكونات المجتمع الإسرائيلي دراسة علمية تساعد على كشف حيل إسرائيل في تضخيم الذات بغية إضعاف معنويات الغير؟

وهل توافر أصحاب الاختصاص على دراسات جادة لـ"ضوابط" وحدة الشعب الإسرائيلي في مرحلة ما بعد السلام، إذ من المتوقع أن تختلف عما كانت عليه حين استطاعت المنظمات اليهودية، ومنذ قيام إسرائيل، أن توظف "عقدة" الخوف وانعدام الأمن في ظل السياج العربي المحيط؟

وماذا يعرف دارس الاجتماع العربي عن "بنية" المجتمع الإسرائيلي ووظيفة هذه البنى؟ ومدى مطابقتها للصورة "المتوهمة" التي كونتها مكينة الدعاية الصهيونية عن مجتمع "العدالة" والديموقراطية؟

وماذا يعرف أهل الفكر العرب عن المؤثرات في تكوين مؤسسات الفكر الإسرائيلي وأطروحاته المتماهية مع "مشروع" الدولة الصهيونية على أرض فلسطين؟

وماذا يعرف رجال الصناعة العرب عن الصناعة الإسرائيلية التي تصورها الدعاية في صورة "المخلص" من تخلف المنطقة وأهلها، باعتبارها "السلم" الذي تصعد عليه أجيال "الشرق الأوسط" إلى القرن المقبل، فهل هذا صحيح؟ أين نحن منه؟ وهل الصناعة الإسرائيلية تستحق أن تكون بديلا عن "مشروع الصناعة العربية"؟

هذه كانت تساؤلات وتعليق على المشهد قبل 20 عاما، فماذا تغير؟

جرت مياه كثيرة تحت الجسر، تبدلت فيها أحوال، وتشظت كيانات كانت متماسكة، وتشققت علاقات كانت منسجمة، وانكسرت إرادات كانت صلبة، وتحطمت أحلام كانت غضة واعدة، تسعف أهلها في لحظات الضعف، وظل الشعب الفلسطيني عصيا على محاولات القهر والتسليم بالباطل.

ولكن الحقيقة المرة تقول: نتنياهو مستمر في سياسة ابتلاع الأرض وإخفاء المعالم، والعالم منشغل بهموم جديدة، والقضية الفلسطينية باتت "باردة" على مائدة السياسيين.

لكن الحقيقة الأخرى التي يتجاهلها الكثيرون، هي أن ظلم الفلسطينيين سيظل "الجمرة تحت الرماد" إذا لم تعالج قضية هذا الشعب.

(عن صحيفة الحياة اللندنية)