تظهر الأوضاع الراهنة في معظم المجتمعات العربية غلبة رفض وتسفيه قيم الديمقراطية والتعددية.
فالنخب الحاكمة ما زالت ترغب بالأساس في إدارة الشأن العام وفقا لأجندات وضعت هي بنودها بمفردها واستبعدت منها ما لا يناسبها من قضايا أو مقاربات. أما القوى الأخرى من أحزاب معارضة وهيئات ومنظمات فاعلة في مجال المجتمع المدني، فتعيد إنتاج جوهر الاستبعاد هذا فيما بينها إن على أرضية خلافاتها الإيديولوجية التي لا تنتهي أو بالنظر إلى التحاق بعضها بالطرح الحكومي.
الأخطر من ذلك هو أن ذات الثقافة الاستبعادية تشكل النمط الأساسي لعلاقة الأجيال المتتابعة من السياسيين والحركيين والمفكرين إن داخل النخب الحاكمة أو بين صفوف المعارضين على نحو يمكن دوما «الرجال الأكبر سنا» من متوسطي العمر والأصغر سنا بادعاء الحكمة والنظرة الثاقبة.
ثم لدينا، ثانيا، هيمنة المؤسسات العسكرية والأمنية على شؤون الحكم والدولة والمجتمع في ظل تسفيه للمؤسسات المدنية ولممارسي العمل العام من المدنيين ولمجمل أدوات الحياة السياسية. للسياسة حين تستقر ممارستها كمهنة سلمية هدفها إدارة الصراع بين قوى المجتمع وصولا لتحديد معاني ومضامين الصالح العام وصناعة توافق حولها، نسق أخلاقي ومنظومة قيمية وعالم معرفي تحفز مجتمعه على المساومة والتفاوض والبحث عن مساحات المشترك بين المتصارعين وترفض المقاربات الإطلاقية بنزوعها المعهود نحو الإجهاز على الآخر والهيمنة المنفردة على الدولة وإلغاء تعددية المجتمع. أما المؤسسات العسكرية والأمنية وما يخضع لسيطرتهم المباشرة من إعلام عام وخاص، فتتحرك بين عوالم تحتقر المساومة وتتواجد في خانات تعرف البحث عن المشترك كدليل وهن غير مقبول أو مصدر اعوجاج وخيانة لا بديل عن استئصالهما.
في مصر، على سبيل المثال، لم ترتب لا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة ولا الطاقة الاحتجاجية العائدة إلى المجتمع دفع السلطوية الجديدة بمكونيها العسكري والأمني إلى إعادة النظر في سياسات القمع والإلغاء والحصار المتبعة منذ 2013 ضد قوى المعارضة والمجتمع المدني والأصوات المستقلة في الفضاء العام.
لم يتغير نزوع السلطوية إلى الهيمنة المنفردة ورفضها السماح بأي قدر من المشاركة الشعبية في تحديد مضامين الصالح العام وإدارة شؤون الحكم. لا تفسير لذلك سوى هيمنة المعادلات الصفرية الرافضة للمساومة والتفاوض مع «الخارجين عن الطوع» على مقاربة جنرالات المؤسسات العسكرية والأمنية للسياسة واعتمادهم البدائي (بالمعنى الاستراتيجي) على الأدوات القمعية كضمانات نهائية لاستمرار سيطرتهم واستقرار حكمهم.
أما المجتمعات العربية التي لا تدير شؤون الحكم بها المؤسسات العسكرية والأمنية بمفردها وتضطلع بها بأدوار رئيسية أسر حاكمة متماسكة لها حلفاؤها بين التكنوقراط وخارج دوائرهم، كما هو الحال في دول الخليج والأردن والمغرب، فتواجه نفس أزمة كراهية النخب الحاكمة للديمقراطية والتعددية.
ثالثا، لم تزل أغلبية ساحقة بين مواطني البلدان العربية تنظر إلى دور الدولة بصورة تقترب كثيرا من رمزية الدولة الأب أو الدولة الحامية المسؤولة بمفردها عن رخاء المجتمع وسعادة الأفراد في مقابل ما يقدمونه لها من فروض الطاعة والولاء. ولا يترتب على تلك النظرة المريضة التي ساهمت النخب الحاكمة في خلقها سلسلة لا متناهية من التوقعات تجاه ما يمكن أن تقوم به مؤسسات الدولة وحسب، بل تؤدي من جهة إلى انتشار ثقافة التبعية والشكوى والانتظار بين المواطنين ومن جهة أخرى إلى غياب تثمين مبادرات الأفراد وأدوار منظمات المجتمع المدني المستقلة. ما لم يهبط سقف التوقعات المجتمعية المتجهة إلى الدولة ويشرع المواطنون في التعامل معها كفاعل رئيسي من بين فاعلين آخرين، فإن كراهية الديمقراطية والتعددية لن تتراجع وتعثر مسارات التحول الديمقراطي لن يتبدل واحتكار النخب الحاكمة لإدارة الشأن العام لن يتغير.
رابعا، تتناقض الفكرة الديمقراطية والممارسة التعددية مع الحضور المؤثر للشعبوية الدينية والوطنية في المجتمعات العربية. بين حكام يوظفون الدين للارتقاء إلى مصاف المثل الأخلاقية العليا ويتدخلون من ثم في شؤون الناس الخاصة كما يحتكرون الشأن العام، وبين مؤسسات عسكرية وأمنية تمتطي الهيئات الدينية لكي تروج للادعاء بكون طاعة الحاكم والامتناع عن معارضة سياساته من صحيح الدين، وبين نخب حاكمة تعول على طبول الوطنية لكي تخرج على الناس كحامية الحمى والمدافعة عن المصالح الوطنية الحقة ومقتضيات الأمن القومي وأيضا لكي تمارس التخوين ونزع الوطنية عن معارضيها، يسقط القبول الشعبي للديمقراطية والتعددية.
خامسا وأخيرا، تعني ثقافة الديمقراطية والتعددية التأكيد على مبدأ حياد الدولة حيال الخصوصيات العرقية والدينية والمذهبية والطبقية المنشرة بين المواطنين كمكون رئيسي لهذه الثقافة لا تستقيم بدونه. لا يسع الدول الحديثة إزاء تعدد هويات الجماعات، حتى وإن تعلق الأمر بأغلبيات وأقليات ثابتة النسب، إلا أن تؤسس لفعلها العام وشروط الرضاء الشعبي عنه بصورة مدنية تبعد عن إطلاقية العرق الواحد أو الدين الواحد وتركز على صناعة التوافق حول الشأن العام وصياغة مساحات المشترك بين المواطنين وتوظيفها كموجه أخلاقي وقيمي للسياسة بصورة كلية.
ويتطلب ذلك بالمقابل سيادة فهم مجتمعي للعرق والدين والمذهب والطبقة يحمي مضامينها أو حرية ممارستها في المجال الخاص (أي مجال الفرد والأسرة)، بينما يعلي من شأن التعدد والتنوع في الفضاء العام. فقط مثل هذه الثقافة المدنية هي القادرة على خلق مناخ مجتمعي ملائم للديمقراطية والتعددية، وهي للأسف وإلى اليوم لم يشتد عودها في المجتمعات العربية.