قضايا وآراء

العرب... نحو نظرية عربية جامعة

1300x600
ومن يتهيب صعود الجبال     يعش أبد الدهر بين الحفر
(الشاعر العربي أبو القاسم الشابي)

كُتِبَتْ هذه السطور قبل أكثرِ من مئةعام لتكون باكورة لسلسة أعمال تحاول أن تجيب على أسئلة لم تطرق أبواب الجواب، إلا أن حالة اليأس المستشرية قد حالت دون ذلك. لعلها اليوم تطرق تلك الأبواب.

***

بعد مرور قرن على الحرب العالمية الأولى وسقوط المنظومة السابقة التي أدارت العرب لقرون وظهور منظومة استعمارية عملت على تفتيتهم وزرعهم بالقنابل الموقوته، راجت في بلاد العرب أطروحات وأيديولوجيات تبنتها تيارات وتنظيمات واسعة عملت على توحيد العرب واستعادة مجدهم الضائع، أو كذلك زعمت.

وعانت أمة العرب في القرنين الماضيين من أزمة في النخب، وقصور في الرؤى الفكرية والايديولوجية المطروحة. فمنها ما كان ردة فعل على أيديولوجيات أخرى، كالقومية العربية التي ما ظهرت في بادئ الأمر إلا مواكبة لموجة القومية التركية التي اجتاحت الدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، ومنها ما كان منتجاً رافضاً لكل ما وجد من دون تقديم أطروحة سياسية حقيقية. والعامل المشترك في كل منها هو الجمود وعدم المرونة وتقبل الإختلاف.

فقبل الاستعمار اجتاحت العرب موجة من القومية العلمانية المستنسخة من القوميات الاوروبية التي تمأسست تدريجياً بدءا بمؤتمرات ويستفاليا عام 1648 حتى الحرب العالمية الثانية، ومستعينة نظرياً بالقومية التركية التي تجسّدت في "الإصلاحات الكمالية" التي بددت الرابط الجامع الوحيد بين العرب والترك، وهو الدين. فكانت الحركة القومية العربية مجرّدة من أفكار ملائمة لحضارة وتاريخ المنطقة، ولربما كانت فرصة للأقليات الدينية لتتساوى، وربما تحكم، مع الأغلبية إن كان العقد الاجتماعي مبنياً على الإثنية.

ولم يكن هذا كافياً، فقد رُكبِت هذه الموجة الفكرية من "ثورة" اعتمدت على المستعمر البريطاني، ظانّة أنه منظمة خيرية لتلقى الخذلان الحتمي في النهاية. فكان مكتب بريطانيا في مصر يدعم، ويخدع، الشريف حسين، بينما يدعم مكتب بريطانيا في الهند؛ الأمير -آنذاك - عبد العزيز آل سعود، وكانت الغلبة للأخير والمنفى للأول.

وقبل التحدث حول طرحٍ بديل، يجب إلقاء نظرة على أبرز الأيديولوجيات العربية في القرن الماضي وجوانب قصورها:

- القومية، بشقيها الناصري والبعثي: اشتدّ عود الحركات القومية العربية مع تهاوي الحركة الإستعمارية في العالم والمنطقة تحديداً. فظهرت حركات تقسم وتتحدث باسم الأمة العربية التي لم يكتب لها الاتحاد حتى الآن على عكس الأمم الأخرى – من الصين حتى أوروبا - التي التقت في نظام سياسي جامع يحقق طموحاتها.

فظهرت القومية الناصرية ذات الميول الاشتراكية، إلا انها كانت حركة استئثارية واستئصالية لكل معارض ومخالف. لم تتردد في قمع وملاحقة، بل وإعدام معارضيها. وفي الشمال العربي ظهر حزب البعث في سوريا والعراق ورغم وحدة الهدف - ظاهرياً - إلا أنهما كانا من ألد الخصوم عربياً واشتركا في خاصية الاستبداد والعسكرة وقمع المعارضين. فكانت الحركة القومية العربية معسكرة البنيان واستبدادية الفكر؛ فكان مصيرها ما رأيناه في "الربيع العربي".

- الشوفينية القُطْرية: وإن كان البعض يعدها موجة قصيرة وعابرة، إلا أن ظهورها يعكس تخبط بعض النخب العربية – تحديداً في مصر - وبحثها عن التقدم الذي نطق باسمه الجميع ولم يدركه أحد. فانعزلت الدول القُطْرية العربية في حالها وغاب الفكر الجمعي العربي، حتى خطابياً.

- الليبرالية العربية: وإن كان أي من الليبراليات العربية لا يحكم الآن، إلا أن بعضها كان له حضور بارز، مثل حزب الوفد المصري أيام حكم الملك فاروق، وكانت "ديمقراطية" في ظل استعمار أجنبي يتلاعب في البلاد. ورأينا الليبرالية العربية اليوم وقد تحالفت بطريقة غير مفهومة مع الأنظمة الإستبدادية المعادية لفكرة حرية الشعوب أساساً. وكانت الحركة الليبرالية متناقضاً في ذاتها فرفضت، وأيدت قمع، الأفكار المنافسة لها باسم الحرية. وكانت المحصلة أنْ - كما رأينا في الانتخابات العربية المختلفة - سقطت الأحزاب الليبرالية، ولم تعد ترى إلا بالمجهر في قوائم الانتخابات.

- الأيديولوجيات الإسلامية (أي التي تعتبر الإسلام – حسب فهمها له - مرجعاً لها): وكانت السمة المميزة للأيديولوجيات الإسلامية أنها الأفكار الوحيدة التي نبتت من رحم المنطقة وتاريخها، ولم تستورد مرجعياتها من الخارج، إلا أنها عانت من تناقضات ومشاكل أخرى.

ولعل الأيديولوجيات الإسلامية تتلخص في أربعة أقسام، كما يلي:

1. الإسلامية الإصلاحية: وتمثّل هذا التيار أساساً بالإخوان المسلمين في مختلف البلدان العربية. ويزعم هذا التيار أنه يمثل البديل للمنظومة العربية الفاسدة، وأنه يستمد شرعيته من أفكار أصيلة في المنطقة، وكانت له إنجازات كبيرة في الجانب الاجتماعي إلا أنه اصطدم بحقيقة الحكم واكتشف أنه لم يكن مستعداً – رغم عمره المديد - لا من حيث التأهيل ولا من حيث الرؤية لقيادة العرب نحو منظومة جديدة تحقق آمالهم وتطلعاتهم. ويرى هذا التيار في الإصلاح التدريجي عبر الإنخراط في المنظومات القائمة حلاً في إصلاح الحال حتى الوصول للغاية – التي لم يتم تحديدها وتوضيحها للناس وربما للذات - حتى الآن! فما هو المنتج النهائي لهذا التنظيم ضخم الجثّة (والأضخم حالياً)؟ وما هو مشروعه السياسي؟ وما هي نظرته تجاه القطرية أو "الإمبراطورية" – إن جاز التعبير-؟ وما هي نظرته للملكيات العربية؟ وما هي أدواته؟ وما هو مشروعه الاقتصادي؟

ويبدو - من خلال نظرة رجعية - أن هذا التيار عموما قد تأقلم مع المنظومة السابقة بنيوياً وفكرياً، بل وأصبح ركناً منها رغم أنه عاش مطارداً ومضطهداً طوال تلك السنين. فكان إخوان سوريا على معزل من إخوان العراق، ولربما ذكّرهم تنظيم الدولة بإزالته الحدود أنهم من المفترض أن يكونوا أقرب! وعمل إخوان مصر بمعزل عن محيطهم، بل وتجاهلوا توصيات حلفائهم في بقية الأقطار، وانقسم إخوان الجزائر والأردن على بعضهم، وجرّم كل منهم الآخر، واتخذ إخوان تونس والمغرب - وإن نفت الأخيرة ذلك المسمى إلا أنه عمليا تسير في نفس السياق - منحى "أردوغانياً" يسير بهم في اتجاه قد يتضارب مع زملائهم في بقية الأقطار.

ولم يستطع هذا التيار الحفاظ على الحكم وفشل في مجابهة المؤامرات التي حيكت لإسقاطه.

ورغم صراعهم الطويل مع القوميين العرب، إلا أن الإصلاحيين يؤمنون – ولو عاطفياً - بالوحدة العربية، ولكنهم يرفضون العلمانية التي تبنتها الحركات القومية في أشكال مختلفة رفضاً قاطعاً.

ومن مفارقات هذا التيار أنه انسلخ نسبياً عن فكرته الاولى التي طرحها منظره الأول الشيخ حسن البنّا؛ الذي كان طرحه يوازن بين الإصلاح والثورة، فكانت كتائبه من أوائل من خاض حرب فلسطين عام 48، وأسس التنظيم الخاص لمقاومة المستعمر الإنجليزي ولتحقيق مآرب أخرى. إلا أن التوجه الثوري قد نبذ وتلاشى بعد وفاة البنّا، كما رأينا ما حصل مع سيد قطب ومن أيده.

ومن الاستثناءات أيضا هنا حماس فلسطين التي تنتمي لعائلة الإخوان المسلمين، إلا أنها ثورية المبنى والفكر لخضوعها لاستعمار أجنبي. ولا ننسى أيضا الحالة الشاذة في إخوان سوريا أيام ثورة حماة عام 1982، وانقلاب السودان والحرب الأهلية في اليمن، ختاماً بالدعم المبطن للجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفييتي، والذي كان آخر المظاهر الثورية في الإخوان المسلمين، مع استثناء فلسطين.

2. الإسلامية الراديكالية الثورية: ويختلف الإسلاميون الراديكاليون الثوريون كثيراً في ما بينهم، إلا أنهم يجتمعون في حيثيتي تكفير أو زندقة الخصوم وفي الإيمان بالثورة وسيلة في تحقيق أهدافهم. فمن تنظيم القاعدة الذي رأى في الأعمال "الجهادية" المتفرقة حلّا، وصولاً إلى فحل "الجهاديين"، تنظيم الدولة، الذي رأى في الثورة الشاملة التي تتوسع تدريجياً حلاً مناسبا، واختار فترة انهيار الدولة في الشمال العربي لينطلق ويتوسع تدريجياً إلى مناطق أخرى. ولربما كان هذا التيار هو أكثر التيارات الإسلامية تناسقاً ووضوحاً مع نفسه وتحديداً لأهدافه، إلا أنه لا يقدم أي حلول للمشاكل العميقة التي يعاني منها العرب، بدءا بالكوارث الاقتصادية وانتهاء بالأطروحة السياسية. فالخلافة شعارٌ أكثر منه نظام سياسي، والشريعة – حسب فهمه - هي حزمة قوانين صارمة يغلب عليها الحدود. فما هو شكل الخلافة التي ينادي بها؟ وما هي طريقة الحكم فيها؟ وما هي كيفية اختيار الحاكم؟ وما هي حلوله الاقتصادية؟ وما هي طبيعة العقد الإجتماعي الذي ينادي به؟ وهل يرغب بقلب النظام الدولي والعمل خارج اطار ويستفاليا؟ وإن كان هذا التيار ما زال في مرحلة الثورة إلا أنه لم يجب على كثير من أسئلة الدولة حتى الآن.

ويعاني هذا التيار من نفس المشاكل التي عانت منها الحركة القومية، فهو يمشي على نفس الخطوات الاستبدادية الإقصائية، ولكن هذه المرة من منطلق ديني ويقصي المعارضين ويرميهم بالرّدة ويتوعدهم بجهنم الارض قبل جهنّم السماء!

وتدخل الوهابية في هذا الإطار - نسبياً - حيث بدأت ثورية إقصائية إلى أبعد الحدود، إلا أنها ابتعدت عن السياسة مع استقرار الدولة السعودية، واكتفت بدور "المشرعن" دينياً للنظام، وأصبحت – في لغة السياسة - لا تعدو كونها مجرد أداة في يد النظام الحاكم.

3. الإسلامية الإعتزالية: وتتمثل في الحركات الصوفية والسلفية العلمية في بعض البلدان العربية التي شارك بعضها في طرد المستعمر الأجنبي (كما في السودان وليبيا)، إلا أنها اعتزلت الحياة السياسية والمجتمعية والتزمت طرقها وصومعاتها. وقد كان بعضها أداة يستخدمها النظام لفرض شرعيته.

وانتقلت الوهابية لهذه الخانة بعدما تمأسست الدولة وثبتت أركانها.

4. الإسلامية الشيعية: وقبل الخوض فيها ينبغي الإشارة إلى ثلاث نقاط مهمّة، الأولى أن الشيعة العرب منقسمون انقسامات لا تقل حدة عن تلك عند السنة العرب، والثانية هي أنهم يمثلون أقلية صغيرة في المجموع العربي مقارنة بوضعهم في الدول القطرية كما، العراق ولبنان والبحرين - حيث هم أغلبية - وقد كانت لبعضهم تجارب مريرة تحت حكم بعض الأنظمة الإستبدادية "السنية"، والثالثة هي أن إيران تعتبر الشيعة العرب أرضية خصبة لها لحمل مشروعها وتوسيع نفوذها – أو سيادتها - وقد سعت لتوسعة هذه الأرضية عبر ادراج العلويين والزيديين تحت هذه المظلة، ولو سياسياً.

وبعض هذه التيارات يرتبط ارتباطاً عضويا بإيران، وبعضها متعاطف وبعضها متحفظ على سلوكها وينتمي لمرجعيات محلية. والسؤال الأهم هو حول التيارات المدعومة أو المرتبطة بالنظام في إيران الذي يرى في البلاد العربية مرتعاً خصباً في ظل تهاوي بعض الدول القطْرية العربية وانشغال بقية العرب في كيد المؤامرات ضد بعضهم . فهذا الأمر يضعهم حتما في صدام مع أي مشروع عربي يرمي لتوحيد المنطقة.

وفي ظل الوضع العربي الراهن، لا يجد المتابع صعوبة في اكتشاف عمق أزمات النخبة العربية والأطروحات التي تبنتها – مع عدم المساواة بينها أخلاقياً وعملياً - فلم ينجح أي منها في تجنب أخطاء الآخر ولا في صياعة نظرية عربية جامعة ومعتدلة ومتفهمة لطبيعة وتعقيد المنطقة العربية (أو الوطن العربي كما يحلو للبعض – ومنهم الكاتب - أن ينادوه).

ومن هنا يتوجب على النخب العربية أن تصوغ نظرية تتعلم من أخطاء الماضي – أو كوارثه بتعبير أدق - وتفهم طبيعة المنطقة وتعقيداتها الدينية والإثنية والاجتماعية وتفهم الشروخات التي أحدثتها عقود التخلف السابقة. وإن كان أحد لا يزعم امتلاك هذا الحل "السحري"، إلا أن هناك دروساً يسهل تعلمها على من استقرأ القرن الماضي وعثراته. لذا يبدو أنه على أي نظرية تزعم امتلاك الحل:

1. أن تكون "مرنة" ومتفهمة للتعقيدات التاريخية في المنطقة: فالعرب، وإن كانوا أمة، فإنهم بينهم اختلافات كثيرة، وكبيرة أحياناً. فلو أردنا تقسيم العرب لكيانات ثقافية، فلعلّنا نحصل على خمس أو ست كيانات (عرب الجزيرة، وعرب الشمال الذين قد ينقسمون بين شام وعراق، وعرب اليمن، وعرب النيل، وعرب المغرب)، وحتى هذه الكيانات فبينها اختلافات داخلية، إلا أن نسبة تجانسها تفوق نسبة التجانس بين أعضائها وأعضاء الكيانات الأخرى. ومما قد يدعم هذا التقسيم، تقسيم أهل اللغة للهجات العربية إلى: الشام والعراق والجزيرة وحوض النيل والمغرب العربي.

والعرب - قبل كل شيء - ليسوا عرقاً وإنما إثنية. فالعرب – بعاربتهم ومستعربتهم - هم قلّة أمام من تعرّب ونطق بالعربية كلغة أولى، من العراق مروراً بالشام ومصر والمغرب العربي، وهذه نقطة قوة لا ضعف، إلا أنها قد تصبح ضعفاً إن لم تعامل بحذر. فالعامل الحاسم هو اللغة والانتماء الحضاري والثقافي لا الانتماء البيولوجي العرقي. ومن زعم غير ذلك، فما عليه، إلا أن يجلس في ندوة جامعة للعرب من مختلف الأقطار ويتأمل في الاختلافات الشكلية الهائلة. ولو نظرنا، على سبيل المثال، إلى تعريف الجامعة العربية للعربي – وإن كان قاصراً - إلا أنه يركز على الانتماء لتطلعات الشعوب العربية لا على العرق.

2. أن توازن بين الحداثة وأصالة الميراث. فالأفكار التي لم تنبع من رحم المنطقة لم تلبث إلا أن تلاشت وتبدد جهدها لأنها فشلت في دغدة مشاعر الجماهير. فكانت أفكار تنتمي لأمم أخرى نبتت من رحم تجاربها فصعب استنساخها في بيئات أخرى. فالليبرالية العربية لم تحظ بقبول انتخابي يذكر، وكذا الاشتراكيات العربية التي ما لبثت أن تبدد صداها مع فشل الاتحاد السوفييتي. والقوميون العرب، رغم الزخم الهائل في البداية، إلا أنهم فشلوا في الحفاظ عليه لمعاداتهم للمشاعر الدينية المترسخة في المنطقة على مدار 14 قرنا من تاريخ العرب. بل إن العرب لم يصبحوا "أمّة" بالمفهوم السياسي إلا بعد ظهور الإسلام.

وعلى الجانب الآخر، فإن الأفكار التي لا تتجاوز كونها خطابات رنانة تدغدغ مشاعر الناس لن تلبث إلا وأن تتجاوزها الجماهير. فمع حنين الأمة العربية بمجملها إلى تاريخها ومجدها الذي ظهر مع ظهور الإسلام، إلا أن مشاكلها أعقد من أن تنحصر في دعوة لإحياء الماضي أو هتاف للخلافة. فالعرب اليوم بحاجة لمنظومة سياسية حديثة وفعالة تواكب عصرهم، وإلى نظام إقتصادي ينتشلهم من وحل فقرهم وتخلفهم الإقتصادي والتكنولوجي، ومن وحل الاعتماد الأعمى على المصادر الطبيعية التي ما هي إلا ضرع سيجف يوماً ما، عساه ما يكون قريبا.

3. أن توازن في طرحها بين الهوية والمصلحة الإقتصادية والجيوستراتيجية، وإن كانت الناس تتوق لهويتها الجمعية ولوحدتها، إلا أنها في ظل هذه النكسات تتوق أكثر لطرح مصلحي ينتشلهم مما هم فيه. فعلى كل من يزعم رغبة في توحيد هذه الأمة أن يبني أحلامه وآماله على معطيات إقتصادية وأمنية صلبة. فهذه المنطقة قبل أن تكون متحدة اللسان –والدين نسبياً - هي جزء من منظومة أمنية واحدة (Security Complex) وأي فوضى أو اضطراب في قطر ما سيعدي الجيران، كما أثبتت التجربة. وأيضا مصالحها الاقتصادية مترابطة بشكل اعتمادي. فاقتصادات المنطقة اعتمادية (inter-dependent economies) ولا يوجد اقتصاد واحد من اقتصاديات المنطقة قادر على النهوض وحده لأسباب موضوعية. عدا عن تداخل الطرق التجارية البرية والبحرية عبر المضائق الطبيعية والصناعية من جبل طارق، مروراً بالسويس حتى عدن وهرمز. وإن كانت الحقائق الموضوعية مؤسفة من حيث ارتفاع نسبة التبادل مع الخارج العربي بدلاً من الداخل!

4. أن تعترف بالأقليات العرقية: وهذا درس نتعلمه من تجربة الأكراد والأمازيغ المريرة فهما مكونان أصيلان شاركا في صياغه تاريخ وحضارة المنطقة. وما زال الأكراد رافضين على الاندماج في الأمم الثلاث (العرب والترك والفرس)، ولم تفلح سياسات صدام أو كمالية تركيا في إلغاء هويتهم القومية، بل إنها أثرت سلباً على الجميع. وكذا الأمازيغ في المغرب العربي. وأي إنكار لهوياتهم ولغاتهم سيزيد من حدة التوتر، بل وسيدفع البعض نحو التطرف كما يجري في بعض المناطق.

5. أن يكون الطرح "ما فوق الطائفية" (supra-sectarian): وإن كانت الغالبية الساحقة من سكان المنطقة هم مسلمون سنّة، إلا أن الأقليات الدينية والطائفية ليست بالهينة، وكل منها مستعد لرفع السلاح دفاعاً عن معتقداته وحقه في المشاركة السياسية. فشيعة العراق والخليج ولبنان، وعلويو سوريا، وزيديو اليمن، ومارونيو، لبنان وأقباط مصر، هم مكونات ذات نفوذ وارتباط راسخ بالمنطقة. وإن كان الكاتب يؤمن بحق الأغلبية في اختيار منظومة الحكم وشرائع التحكيم، إلا أن المنظومات القيمية والدينية للأقليات يجب أن تؤخد بالإعتبار. فإن اختارت الأغلبية تطبيق منظومة قيمية ما، فإن الفروق المذهبية يجب أن تؤخذ في التطبيق، أو أن تطبق كل طائفة شريعتها على نفسها مع الأخذ بالاعتبار أن بعضها يرفض فكرة تدخل الدين في الحياة العامّة أصلاً. وإلا فإن كلاً من هذه الأقليات سيسعى إما إلى الارتباط بجهة خارجية تحميه، أو يسعى للانفصال وطافته في كيان سياسي منفصل.

6. أن تحفظ الحريات العامّة وتذر القسر والإلزام: فجميع الأيديولوجيات التوجيهية تتهاوى الواحدة تلوالأخرى، بدءا من اللينينية مروراً بالكمالية، ومن ليبرالية فرنسا المتطرفة إلى تطرف داعش والوهابية وطالبان، وهاي هي إيران – وإن بدت صاعدة - إلا أنها تسير على نفس المنوال.

7. أن تتبنى "الواقعية الثورية" في سبيل صياغة غاياتها وفي سبيل تحقيقهم: فهذه المنطقة تحتوي على ثلث إنتاج العالم من النفط و12% من الغاز الطبيعي، عدا عن القيمة الحضارية لهذه المنطقة فمنها ظهرت الأديان السماوية الثلاث وآخرها الإسلام الي يدين به 1.7 مليار حول العالم، ومنها ظهرت الأفكار المعتدلة والمتطرفة التي وصلت حتى إندونيسيا. ولا ننسى وجود الكيان الإسرائيلي الذي سيستجدي التدخل الدولي بصورة دائمة. ولربما كان أفضل ما يشرح هذا البند هو خطاب بلومسبرغ لرئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير. لذلك فإن أي مشروع يرمي لتوحيد هذا الجسد الضخم لن يقابل بترحاب أي من القوى الدولية أو الإقليمية!

8. أن تكون الأمة هي مصدر الشرعية: وإن كَثُر من أقسم باسم الشعب والأمة وتحدث باسمهما، إلا أن احداً لم ينجح حق النجاح في تمثيل طموحات الشعب وتمكينه. فكان بعضها من نصّب نفسها إلهاً على الأمة، ومنها من كان واعظا، ومنها ما كان مستحقراً لها أصلا، إلا أن أحداً لم يمكّن هذه الشعوب ويطور منظومة فعالة لعكس إرادتها.

9. أن تكون فلسطين في قلب هذا الطرح: ففلسطين ليست مجرد قطعة جغرافية في هذا الجسد الضخم، ولكنها قيمة حضارية ودينية بقدسها وبتاريخها الذي كان معياراً لحالة الأمة، عدا عن موقعها الهام في قلب الجسد العربي الذي يصل بين آسيا وأوروبا، من دون ان ننسى أن من يغتصبها يسهر ليل نهار للعمل على شرذمة الجسد العربي، فوق تشرذمه الحالي.

وفي الختام، وإن كان الواقع العربي يوحي بخلاف الميل إلى ما ذكر أعلاه، إلا أن التجربة البشرية عموماً والتجربة الأوروبية تحديداً تنبئ بأن من لا يتعلم بالقلم يتعلم بالدم، ولربما كان درس الدم - لإيلامه - أيسر فهما. ورغم حالة اليأس من الفشل المتراكم – ومع القناعة التامّة بأن مصائر الأمم لا يُتَنبّأ بها عبر مخدرات التنمية البشرية - إلا أن علينا الرجوع لتاريخٍ ليس ببعيد عندما كانت ألمانيا دويلات متناحرة تفوق المئة حتى توحيدها على يد بيسمارك، وعندما كانت الصين ممالك متفرقة هزيلة لم تصمد أمام الغزاة. ونستذكر صرخات الثائر الطلياني "مازيني" عندما نادى باسم الوحدة في أمته - المنقسمة على ثمان دول آنذاك - ليُنعت بالحماقة. وها هي ألمانيا والصين وإيطاليا اليوم – برغم تحدياتهم - أغنياء عن التعريف!