كتاب عربي 21

في بلوغ الانقلاب المصري مداه

1300x600
كل المؤشرات القادمة من مصر تؤكد على الحدّ الذي بلغه الفعل الانقلابي هناك خاصة بعد بدء قائد الانقلاب ـ الجنرال السيسي ـ في مطالبة شعبه بمهلة إضافية مدتها ستة أشهر من أجل النهوض بالوضع المتردي القاتم الذي يعيشه المصريون على كل المستويات. 

الجميع يعلم أن الانقلاب لن يصمد طويلا لأنه يحمل بذور فنائه في داخله بما هو فعل ضد قانون التطور الطبيعي للأحداث فجوهره فعلٌ قسريّ بالقوة الغاشمة من أجل الحلول مكان حدث طبيعي وقع بفعل التراكم التاريخي للأحداث. كان يمكن للعملية الانقلابية أن تدوم لو وقعت في غير السياق التاريخي الحالي للأمة بشكل عام ولمصر بشكل خاص فقد كانت فترة الخمسينيات من القرن الماضي إلى حدود بداية هذا القرن فترة حضارية ملائمة للانقلابات العسكرية المطلية بمسحة ثورية وبأصباغ قومية وشعارات رنانة كالوحدة والتقدمية ومحاربة الرجعية ومقاومة الإمبريالية وغيرها من الأكاذيب التي ذهبت رياح الربيع بأصباغها.

لكن السياق التاريخي الحالي هو سياق استنفذ فيه الفعل الانقلابي كل شروط إنجازه لأن التجارب الانقلابية العربية خاصة في شكلها العسكري قد بلغت مداها وكشفت مدى الجرائم التي ارتكبتها الأنظمة العسكرية المتدثرة بغطاء القومية العربية. الانقلابات التي عرفتها الأمة خلال فترة نشأة الأنظمة الاقليمية والدولة القطرية لم تكن في الحقيقة غير استكمال للمشروع الاستعماري وتكريس لفعل الاستبداد بما هو الوريث الشرعي للاستعمار. وقد لا نبالغ في القول بأن ما أنجزه الفعل الاستبدادي من أثر تدميري على الأمة يفوق أضعافا مضاعفة ما فعله الفعل الاستعماري الذي لم يكن بحجم توحش الأنظمة القمعية. 

كانت ثورة يناير صدمة كبيرة للنظام العسكري العربي لأنها نجحت في الإطاحة بواحد من أصلب الأنظمة الدموية في منطقة المشرق وأسقطت في وقت قياسي رأس نظام الوكالة الاستعماري في الجوار الصهيوني المباشر. لكن الدولة العميقة بأذرعها الممتدة في العمق العميق للدولة الإقليمية نجحت في امتصاص الصدمة الأولى واستوعبت الدرس سريعا مستفيدة من ذهول الشق الثوري الذي لا يزال غير مصدق لهشاشة المنوال الاستبدادي وسرعة انهياره وسقوطه.

لكن رغم كل الدعم الاقليمي والدولي الذي تمتعت به المنظومة العسكرية المصرية من أجل تطبيع الانقلاب وترسيخ قدمه إلا أن التجربة فشلت فشلا ذريعا نظرا للوضع الكارثي الذي تعيشه مصر وهو ينذر بانفجار كبير لا يعرف مداه.

فلا يمكن للفعل الانقلابي اليوم أن يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه من تضليل وتزييف وهو أمر لا يقتصر فقط على الخطاب  الذي صار مهزلة المهازل في الإعلام العربي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بل لأن تنبه المحور الخليجي ممثلا في المملكة العربية السعودية إلى خطورة المسار الانقلابي المصري وانكشاف الجبهة العربية على المشروعين الروسي والإيراني عجّل بترنح التطبيع الانقلابي في مصر. 

إن الهجوم الذي يشنه الإعلام المصري بما هو رأس حربة المنطق الانقلابي على المملكة العربية السعودية وعلى دولة قطر قبلها وعى كل المخالفين أو المنتقدين لجرائم العسكر وكذلك على الصحفيين والمفكرين ليس إلا الوجه الحقيقي للمشروع الانقلابي وليس إلا الجولات الأخيرة في شروط بقاء هذا النظام القسري.

السؤال البسيط هو التالي: ماذا يمكن للنظام العسكري المصري أن يقدمه لشعب يبلغ عدد سكانه مائة مليون نسمة؟ وما هي الدول القادرة على ضخ المزيد من المليارات في خزائن العسكر في ظل أزمة اقتصادية عالمية خانقة؟ وكيف يمكن أن يقف العالم مهما بلغ جبروته أمام أمواج الملايين من الجياع والغاضبين؟
 
الأجوبة واضحة لا غبار عليها والمسألة مسألة وقت لا غير. بل إن تركم الأزمات التي تعصف بالاقتصاد المصري وبالعملة المصرية وما يترتب عليها من أزمات اجتماعية خانقة إضافة إلى عمليات التنكيل والتعذيب التي يمارسها شرطة الانقلاب وجيشه ليست إلا منشطات للموجة الثورية القادمة لا محالة.
رغم كل ذلك لا بد من التنبيه إلى معطيات خارجية لا يمكن تحليليا القفز عليها وعلى رأسها وعي القوى الاستعمارية الكبرى بالحالة المصرية وسعيها الحثيث إلى عدم تكرر سيناريو يناير بكل السبل المتاحة والممكنة ومن بينها التضحية بمصر وبالشعب المصري نسجا على المنوال السوري والعزف على وتر الإرهاب والجماعات الإرهابية. 

هذا الاحتمال يزكيه تشرذم المعارضة المصرية وقواها السياسية بشكل يكشف حجم الاختراق الذي حققه العسكر وأدواته داخل معسكر المعارضة حيث يغلب الانفراد بالرأي والرغبة في الزعامة والتسلط والبروز والسعي إلى تحقيق المكاسب الحزبية الضيقة على حساب المصلحة الوطنية. فمقابل صلابة المحور الانقلابي وتوحد صفوفه يغلب على المحور المعارض الهشاشة والانقسام بصورة لا توحي بأن للأحزاب المصرية المعارضة قدرة على تعويض النظام في حال سقوطه. 

إن احتمال الفوضى في الحالة المصرية هو أخطر الاحتمالات خاصة وأن النظام الاستبدادي العربي قد نجح منذ سقوط أول أعمدته في ليبيا وسوريا وتونس ومصر على الاستثمار في الفوضى أو في الإرهاب بما هو أبرز أشكالها من أجل إرعاب الشعوب حتى تعود إلى حضيرة الطاعة وتقبل بالاستبداد أمرا واقعا لا فكاك منه. 

بناء عليه فإن على الشباب المصري وعلى قواه الحية الاستعداد للمعركة الحقيقية وهي منع سقوط مصر في الفوضى التي تراد لها في حالة سقوط الانقلاب لأنه ساقط لا محالة اليوم أو غدا. إن الاستعداد لمنع شروط الفوضى والتمكين لانتقال سياسي سلس في مصر هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يحمي مصر من المنوال العراقي والسوري الذي يرسم لها اليوم في أقبية القوى الكبرى وأدواتها الإقليمية في المنطقة.