قضايا وآراء

قصة جزيرتين

1300x600
صدقوني لو قلت لكم إن الأمر يتخطى مسألة ملكية الجزيرتين بكثير، وهذا لا يعني التفريط فيهما أو القبول بواقع خلقته قوى إقليمية وعالمية، بعد أن دخلت مصر في تيه الانقلاب وما تلاه.

المسألة وبصراحة، هي إعادة ترتيب أوراق المنطقة من جديد، في ظل ضعف مصر الظاهر للعيان، وبعد أن تشقق العراق، وتبخرت سوريا، وتجزأ لبنان، وعادت اليمن إلى الخلف خمسين عاما، وجاء الدور على مصر.

أزمة الجزر ليس في ملكيتها أو السيادة عليها، إنما في أنها تمثل حالة من الصراع على من يرث مصر المريضة؟ هل هي الإمارات التي تولت كبر الانقلاب؟ أم السعودية التي وفرت غطاء سياسيا إقليميا للانقلابيين، تماما كما وفرت دعما ماليا غير مسبوق ذهب الجزء الأول منه وفق التسريبات التي أذاعتها قناة "مكملين" إلى حسابات بنكية تخص أجهزة سيادية، منها الجيش والمخابرات، كما صرح عباس كامل، الرجل الثاني في "الاتحادية"، مقر الحكم في مصر. 

ما أطرحه هو زاوية مختلفة للنظر والتحليل، فالسعودية ترفض أن تكون رقما تابعا للإمارات في اقتصاد دولة عريقة وسوق كبير مثل مصر، وعلى مدار السنوات التي تلت الانقلاب، كانت السعودية ترقب تحركات الإمارات ومكاسبها على الأرض، كما أنها تابعت حجم القوانين التي أصدرها الانقلابيون لتأمين مكاسب الإمارايتين الذين ساندوا السيسي، بلا شروط في البداية، ثم اكتشفنا أن أخطر وأهم هذه الشروط هو تبعية الاقتصاد المصري للاقتصاد الإماراتي. 

أي متابع حصيف، سوف يدرك أن الامارات تدير اقتصاد مصر، وتفعل فيه ما تريد، بينما السعودية تعتقد ومعها الكويت أنهما لم تحصلا على ما يكافئهما على دعمهما السخي لإزاحة الرئيس المنتخب، وتسليم السلطة لجنرال عديم الخبرة.

وإدراكا من السعودية أن الإمارات تلعب (بذيلها) في المنطقة بأسرها، رغم ولائها الظاهر للمملكة، فقد تحركت الأخيرة رغم الإشارات السلبية عن الانقلاب، التي حاولت تصديرها للإعلام وفرح بها أنصار الحرية والديمقراطية والشرعية في مصر، ولكنها كما يبدو لي كانت مجرد تكتيتك سياسي للتمويه، أو ربما أدركت السعودية أن مجرد وقف الدعم المجاني ليس حلا، لأنها في النهاية ستخرج من مصر خالية الوفاض، إذا ما انتصرت الثورة وأزيح السيسي ومجموعته. 

لقد كان تحرك السعودية الأخير صادما لكثيرين، ولا أعني به موضوع الجزر، فمن حق الدول أن تبحث عن حقوقها والحصول عليها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكنني أعني هنا حزم المساعدات والقروض والمشاريع الاقتصادية الموعودة التي هبطت فجأة على الجنرال وتركت خلفها جبالا من أسئلة حائرة بلا أجوبة، ومنها: هل مصر حاليا في وضع صديق للاستثمار؟

ألم تسمع السعودية عن حجم الانفجار الداخلي والغضب الممتد منذ الانقلاب وحتى اليوم؟ ألم تطلع السعودية على استطلاعات الرأي المقبلة من داخل مصر حول فشل الجنرال وفشل مشروعاته الوهمية؟ كيف تفكر المملكة في دعم نظام محاصر حتى من أصدقائه الروس والطليان؟ كيف تدعم نظاما يقتل شعبها، وهي التي ترفع لواء الإسلام ونصرة المظلومين؟

ولكن الإجابة التي جاءتنا على هذه الأسئلة من السعودية هي (الجزر)، بمعنى أننا في السعودية ندرك غباء النظام وعدم استقرار الأوضاع ونؤمن بحتمية التغيير، لذا فقد بادرنا بالحصول على ما نعتقد أنه حقنا وبالتالي لن نخرج من مولد الانقلاب بلا حمص، كما يقول العامة في مصر.

أما مسألة الاستثمارات فهي طويلة الأجل، وهي قروض لسنوات فإذا تم تثبيت النظام فـ"بها ونعمت"، وإن لم يحدث، فسوف نوقف التعامل، ونلغي التعاقدات (ويا دار ما دخلك شر)، وتكون السعودية في هذه الحالة قد حصلت على الجزر، وتمتعت بوضعية إقليمية مميزة في خليج العقبة، وهذا موضوع مهم من الناحية الأمنية والاستراتيجية للشرق الأوسط الجديد، بعد تقسيم سوريا، وتفكيك العراق، وأحداث الفوضى المرتقبة في مصر، على يد السيسي ورفاقه.
 
في ضوء التحليل السابق، يمكننا فهم ما حدث في جمعة الأرض، وربما يمكننا معرفة الأطراف التي ساندت غضبة الشعب الحقيقية، وحاولت أن تستثمرها في صراع القوى، ليس فقط الداخلية، ولكن الخارجية أيضا.

دعني أعطيك هنا إضاءة مهمة لكي نفهم معا حقيقة ما جرى، وذلك من خلال تحليل موضوعي لموقف بعض وسائل الإعلام المصرية المحسوبة على الإمارات، فقد كانت أذرع الإمارات داعمة، ولو من طرف خفي عبر رموزها مثل إبراهيم عيسى، للتظاهر، وللمطالبة بعودة الجزر، مثله في ذلك مثل وائل الأبراشي، وهو إحدى أذرع المخابرات العامة، الذي طرح الأمر في برنامجه على خلاف بقية الأذرع التابعة للداخلية وللرئاسة وللمخابرات العسكرية التابعة للسيسي نفسه، ومن بينها أحمد موسى ومصطفى بكري. 

في تحليلي، أن الإمارات ركبت الموجة، ليس دعما لحق مصر في الجزر، ولكن لإرسال رسالة إلى من يهمه الأمر، وهو هنا السيسي، مفادها أن اللعب مع السعودية على حساب مكتسبات الإمارات ليس مسموحا به. 

الجزيرتان تيران وصنافير أراض مصرية بحكم التاريخ، وإن ادعى البعض أن ملكيتهما سعودية، فالمعلوم للجميع وهذه حجة قاطعة، أن مصر بسطت عليهما السيادة باختيار وإرادة سعودية، لا يماري فيها أحد.

للأسف كان ذلك حين كانت كلمة مصر هي العليا في المنطقة، أما اليوم وبعد الانقلاب، لم يعد لنا كلمة حتى إن تفوهنا بها، عايرنا البعض بأن صوتنا عورة!