كتاب عربي 21

وقفة أخرى مع "لماذا أمريكا مكروهة"

1300x600
من عجائب وغرائب الأمور، أن كثيرين من أبناء وبنات الشعوب التي تكره الولايات المتحدة، بوصفها مصاصة دماء الفقراء، يتمنون لو تسنى لهم أن يهاجروا إليها ويقيموا فيها (وهذا كحال من يسب العجرمية بأقذع الألفاظ ثم يدعو: اللهم عجرم نساءنا). 

وليس من سبيل لإنكار أن هناك افتتانا عجيبا بأمريكا في كل الدول النامية والراكدة، فرغم أن الصينيين يعتبرون الولايات المتحدة العدو والمنافس الأول لبلادهم، إلا أن معظمهم يعتقد أن ارتداء بنطلون جينز من ليفاي وحذاء نايكي أو أديداس هو الذي يجعل الإنسان "كوول"، وهذه الكلمة صناعة أمريكية، فقد كانت وإلى عهد قريب تعني فقط "الشيء المائل للبرودة"، ولكن الأمريكان استخدموها في عاميتهم بمعنى "راقي وعصري ومواكب للموضة". 

وهناك نحو 120 دولة يتزاحم الناس فيها على مأكولات ومشروبات أمريكية: دجاج كنتاكي (كيه. إف. سي)، وسندويتشات ماكدونالدس وبيرغ كنغ، ويتدافعون لأكل ما تقدمه مطاعم بيتزا هت (التي لا يعرف أحد لماذا تقدم بيتزا دائرية في صناديق مربعة)، وشرب القهوة في ستاربكس، وهناك بلايين الناس يشربون كوكا كولا يوميا. 

والشاهد هو أن الولايات المتحدة غزت الجيوب والبطون والعقول في كل القارات، لأنها نجحت اقتصاديا بدرجة أن أعتى خصومها (داعش والقاعدة مثلا)، يحرصون على أن يكون الدولار الأمريكي هو العملة التي يمولون بها أنشطتهم الأساسية، وهل هناك على ظهر الأرض اليوم شخص يتعامل مع وبالتكنولوجيا، دون الاستعانة بمايكروسوفت وأبل وغوغل وأميركا أونلاين وسيسكو. 

حتى إذاعة وتلفزيون بي بي سي اللذان كانا مصدر الأخبار والمعلومات لجميع أهل الأرض، زهاء 70 سنة، تعرضا لهزيمة نكراء مع ظهور قناة سي إن إن الأمريكية التلفزيونية. 

ولعكس صورة شبه دقيقة لحجم وقوة الاقتصاد الأمريكي، تعالوا نعود 15 عاما ونيف إلى الوراء، لنرى كيف كان حال الاقتصاد الأمريكي في عام 2000: كان إجمالي الناتج المحلي وقتها 9 تريليونات دولار، بينما بلغت قيمة صادراتها 776 تريليون دولار، وفوقها نحو ثلاث تريليونات دولار عائدات شركات أمريكية تعمل في دول أخرى، حيث العمالة رخيصة، وحيث لا قوانين تحدد الأجور. 

وأوردت الأرقام المتعلقة بالاقتصاد الأمريكي لعام 2000 لأقول إن اقتصادات الدول الأفريقية مجتمعة بما فيها الغنية بالنفط (ليبيا والجزائر ونيجيريا) والمعادن النفيسة (جنوب أفريقيا وناميبيا وسيراليون والكونغو) لعام 2015 لا يصل إلى ما وصله الاقتصاد الأمريكي قبل 15 سنة. 

ولعلنا نجد بعض العزاء والسلوى في أن النظام الرأسمالي الأمريكي الشرس الذي انتشر وبائيا في معظم دول العالم، يمارس شراسته أيضا على الصعيد المحلي، فرجل مثل بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، مثلا، يملك من المال ما يعادل ما يملكه 40% من الأمريكيين، وإذا ارتفع متوسط دخل المواطن الأمريكي من الطبقة الوسطى بنسبة 10% مثلا، يرتفع دخل أصحاب الملايين والبلايين بنسبة 140% (هذه أرقام مستقاة من دراسات وتقارير محكَّمة). 

والغريب في أمر الأمريكان، هو أن الفقراء منهم لا يشكون من سيطرة القطط السمينة على كل شيء فيها الزبدة في بلادهم، ذلك لأن المؤسسة والطبقة الحاكمة والمسنودة من أصحاب المال والشركات الكبرى، غرسوا في أذهان العوام أن الولايات المتحدة هي "بلد الفرص land of opportunity" كما تردد آلاتهم الإعلامية على مدار كل يوم، وبالتالي يعتقد الأمريكيون أن الملايين والبلايين حلال على أصحابها، وأن كل أمريكي موعود بالثراء الفاحش الباذخ. 

نفس تلك الآلات الإعلامية هي التي غرست في العقول أن حيازة السلاح الشخصي، من المسدس إلى البندقية الأوتوماتيكية حق دستوري، ولا يكاد يمر شهر دون أن يقوم أمريكي بمجزرة مستخدما سلاحا ناريا، ومع هذا لا توجد أغلبية تعارض بيع السلاح في بقالات خاصة، بنفس سهولة بيع وشراء بخاخ لإبادة الحشرات. 

ونفس عقلية أن المال الوفير حلال على الأغنياء، هي التي جعلت الحكومات الأمريكية تتفادى تطبيق نظم الضمان والرعاية الاجتماعية السائدة في معظم الدول الأوربية، دون أن يثير ذلك غضبا شعبيا، بل إن الرأسماليين الأمريكان غسلوا أدمغة مواطنيهم بحيث يعارض حتى فقراؤهم توفير التأمين الصحي للجميع، ويعتقد أنصار الحزب الجمهوري الأمريكي أن أكبر خطأ ارتكبه الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، هو  توسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل الفقراء والكهول والعجزة، ومن ثم يتعهد كل جمهوري يصبو الى دخول البيت الأبيض بتهشيم تلك المظلة باعتبار أنها تخالف "المبادئ والقيم" الأمريكية.