اجلس برهة من الزمن، وأغمض عينيك وحاول أن تجول بذاكرتك القصيرة بين صفحات ألبومك الإخباري في السنوات القليلة الماضية. لن تفجع ولن تجزع من هول تلك الصور ومن كم الدماء والأشلاء التي ستراها. لماذا؟ هل لأنك فقدت الإحساس؟! أم لأن الصور ذاتها لا تثير مشاعر الحزن والألم؟! أم لأنك أضحيت لا تكترث من كثرة الملمات والمصائب والمناظر التي تدمي القلب؟!
عد بذاكرتك قليلا إلى بغداد والفلوجة، وتذكر كيف كانت تئن شاشات التلفزة الإخبارية من آلاف صور الأطفال والنساء والشباب الأبرياء الذين قضوا أشلاء ممزقة ضحية لقوى استعمارية فاجرة، لا يمكن لها أن توصف إلا بالصلف والتجبر والاستعلاء في الأرض، وهو ما أثبتته الأيام، وإن تستروا ببرقع الديمقراطية ومحاربة الدكتاتورية، فقد جاءت الأيام كاشفة وفاضحة لكذبهم وخبث مخططاتهم.
لم ينته مشهد بلاد الرافدين بالاعتذار الوقح لعرّاب الغزو "توني بلير"، فقد حمل راية الدمار ساسة جاءت بهم آلة الحرب الغربية وسلطتهم على رقاب البلاد، والعباد فأذاقوا الناس ويلات حقدهم وويلات صفويتهم وطائفيتهم، حتى قضوا على كل ما هو جميل في أرض دجلة والفرات، ثم جاء
العراق وأهله الذباحون الجدد، وقاطعو الرؤوس، وفنانو القتل أمام الكاميرات، وصائدو "المرتدين والكافرين"، والمكبرون على قطع رؤوس الرهائن والعلماء المخالفين، فأضافوا فصلا من فصول البانوراما السوداء، وتكفلوا بإتمام رسالة الموت والخراب، فأكملوا الصورة وواصلوا المسيرة. ويا للمفارقة، فالعالم الذي اتحد عربا وعجما ليدمر العراق ومقدراته، تقف طائراته الآن عمياء في سماء الرقة والموصل، لا تبصر قوافل أنصار "الخلافة البغدادية".
لا تقلب كثيرا في صفحات ألبومك الدموي، انتقل سريعا إلى الشام الجريحة، لترى ما تعجز الكلمات عن وصفه، وتتكسر الأقلام عند نقله، وتبكي صفحات التواصل وشاشات الأخبار من بشاعة ما تنقل، وتعتصر أفئدة الرجال من هول المآل وهوان الحال. لبانوراما الجرح السوري خصوصية قد لا تصادف مثيلا لها بين دفات مجلدات آلامك. ابتدأها النظام الدموي بتصوير حقده، ودناءة خصاله، وانعدام مروءته وشرفه، بقتل النساء والأطفال، ونزع حناجر المتظاهرين وإظهار ساديته العنصرية والطائفية البغيضة، وانتقل بعدها إلى استخدام فنون القتل والتدمير باستخدام الكيماوي والبراميل. قد تقاطعك صورة لذلك "القلق" دائما من كلمات وصف القتل وأساليب إراقة الدماء، فالكيماوي في نظر "بان كي مون" كان يستحق أن يتمعر وجهه، وتعلو حدة لهجته في التعبير عن قلقه وشجبه، بينما الآلاف المؤلفة من القتلى والمهجرين والمضطهدين لا بواكي لهم ما داموا لم يقتلوا بالكيماوي، ولم يتخط قاتلهم خطوط مكياج الإنسانية الحمراء التي تضع لمسات فنية على ألبوم عار إنسانية الأمم ومن يدعيها.
هل يا ترى كان سيكتمل المشهد البانورامي الدموي دون أن يدخل جناح العالم العربي الثاني معرض الدماء والأشلاء؟! دخلت
مصر مشهد البانوراما، ولكنها لم تدخله كما دخلته أخواتها، فقد كان المشهد مهيبا، وعظم الموقف جليلا، فقد تصدرت الألبوم الإخباري صور - رغم قساوتها - إلا أنها أطفت لمسات من الأمل والتفاؤل. غزت الشاشات تلك الوجوه المضيئة في ميادين الحرية والأمل، زاحمت صور الدمار والدماء ابتسامات تلك الوجوه المنيرة المضيئة لتزرع في نفسك بذرة من رجاء، وتغرس في أرض أحلامك البائسة شتلة من نور. ولكن ويا للأسف استمرت عاما ثم طوتها نيران الحقد ورصاصات الغدر والخيانة. لا تفزع عندما ترى جثثا متفحمة على أسنان الجرافات والمجنزرات، لا تجزع عندما ترى صور الأكفان البيضاء تملأ المساجد والمستشفيات، فتلك هي تتمة بانوراما العار الإنساني الذي نعيشه.
ترى بين طيات ألبومك ألفي الصفحات صورة لا تكاد ترى بالعين المجردة، ولكنها تقترب من ناظريك بسرعة وقوة وإصرار لتطغى على ما دونها من صور، لتوزن بميزان الإعلام و"حياديته الفاجرة" فهي صور العيون الزرقاء والشعر الأصفر. ألم يكن ركاب الطائرة الروسية من الجنس الأصفر؟! نعم ولكنه سحر الإعلام وأولوياته. تشحذ فيك تلك الصورة المتصدرة بقوة نزعات الغل والحقد وتذكرك بدونيتك وعلو الآخر. يأتيك المنادي صارخا: حتى في ألبوم الدماء يريدون لدمائهم أن تعلو دماءنا ولجراحهم أن تغطي جراحنا.
سرعان ما يدفعك هذا الشعور إلى أن تخرج من تأملات بانوراما حافظتك السوداء وتنطلق إلى صفحات التواصل الاجتماعي، لترى سباقا شرسا في "جالاري" الوحشية والدموية. صور تذكرك بما فعله الفرنسيون الغزاة بحق أبناء وحرائر الجزائر، وصور تذكرك بصنائع محاكم التفتيش الإسبانية في القرون الوسطى، وأخرى تعرض لك وسائل تعذيب المسلمين في غرناطة والأندلس، وغيرها من تاريخ الغرب الأسود، وكأنك بحاجة لأن تتذكر، وكأن ألبومك المحدّث لا يحوي ملايين الصور والذكريات التي تعكر صفو الربوع الهادئة وتلوث مياه المحيطات الهادرة.
"أشرقت" في ألبوماتك المظلمة المعتمة صفحة للعز، صفحة ليست كباقي الصفحات. جهز ذاكرتك لبانوراما ملحمية تسطر بدماء أبناء وبنات بيت المقدس تعلوها صورة السكين التي تتزين بدماء الغاصبين. اجعل في ذاكرتك مساحة لا يدخلها الشك ولا الهوان، صفحة هي للفداء والتضحية عنوان، لشعب ذاق الويلات والحرمان وآن له الأوان أن يسمع الدنيا ويُخرج للعالم أسطورته الخالدة في الفداء والإقدام. فتلك فتياته تتقدم الصفوف لترسم صورة من الإباء والخلود في تاريخ غلب عليه السواد والخنوع والخضوع. "أشرقت طه القطناني" فتاة من شهداء النور على طريق التحرير وتقرير المصير.
إن بانوراما بيت المقدس ليست كبانوراما الغرب الجائر، فشذاذ الآفاق هم من احتلوا أرضنا، هم من قتلوا أطفالنا، هم من أحرقوا الرضيع في بيته، هم من قتلوا أباه وأمه، هم من قصفوا شيخا قعيدا، وبنوا جدارا عازلا، هم من اتخذوا القرى المحصنة بروجا، هم من دنسوا قبلتنا الأولى، وهم من أمطروا مصلينا بقنابل الموت، هم من اعتدوا على شرف نسائنا، وهم من ظنوا واهمين أن شعبنا نسي أو نُسّي، فألبوم عزنا يزخر بدماء المحتلين لتكون لعنة على من جاء بهم إلى أرضنا وليست سُبّة لإنسانيتنا، فليخرجوا من أرضنا ولا نريد لدماء محتل خبيث أن تروي زرعنا، سنرويه بعرقنا ودمائنا، فليخرجوا من أرضنا، فقد آن للتاريخ أن تعاد كتابته.