مقالات مختارة

معامل صنع الطغاة: نؤلههم.. ثم نقتلهم!

1300x600
كتبت غادة السمان: حصل الشاعر نزار قباني على "الجنسية اللبنانية" بعد طول معاناة في حقل تجديد "بطاقة الإقامة" في بيروت وتأسيس "دار نشر" فيها. 

وكرس بعد حصوله على البطاقة مقالة لمديح رئيس الجمهورية، عنوانها "رئيس جمهورية العصافير"، وفيها يسبغ على الرئيس بعض صفات أرباب "الأولمب" الإغريق، تسديدا لـ"فاتورة" الجنسية!

غضبت لذلك. فقد كان في لبنان حكم ديمقراطي بالمعنى الحقيقي للكلمة، لكن مديح الرئيس على هذا النحو، أي رئيس، جيدا كان أم لا، يجعل الحاكم ضيق الصدر بأي كلمة نقد، حتى لو كانت محقة.. 

فالمديح نوع من "الأفيون" الخطر، يتسبب في الاعتقاد التدريجي لدى الحاكم بأنه "الأعظم والأوحد" وعلى الجميع طاعته، والصراخ "بالروح والدم" نفديك، ومن لا يفعل هو بالتأكيد "خائن وعميل"، وهي صفات تخترعها الحاشية المتملقة لمن لا ينضم إليها في مديح "السلطان".. 

فالأديب والمفكر والشاعر كلهم يدين بولائه للحقيقة أولا.. إنه عميل للصدق وجاسوس لكشف الحقائق.

أفيون المديح المتملق

وهكذا كتبت في المنبر ذاته ضد مديح نزار دون أن أسميه تحت عنوان "أيها الشعراء.. لا تمدحوا.." وسطرت كلمة قاسية ضد مديح الحاكم، أي حاكم، حتى لو كان جيدا، كي لا نُربي لديه طبعا خطرا هو "رفض النقد"، ويتورم غروره فهو بشر. ويأتي يوم لا ينصت فيه للصوت الحقيقي للناس وهمومهم ويضيق الشعب به وينفجر ويطيح به وبعدما (ألّهه) يقتله.. 

هذا على العكس من الشعوب الديمقراطية، حيث يستحيل مثلا أن تقرأ قصيدة في مديح الرئيس الفرنسي هولاند، أو أن تسمع مظاهرة تفديه بالروح والدم، وعبادة الفرد مدعاة للسخرية.

وهكذا توقعت شجارا من شجاراتي مع قريبي نزار قباني، ولذا دهشت كثيرا لأن نزار لم يشر بكلمة إلى مقالتي، كأنه لم يطالعها أو أنه تجاهل الأمر.. أو لعله وجدني على حق!!.

ودهشت ثانية لأن العقاب لم يأت منه، بل جاء من "وزارة الإعلام العراقية"، حيث تم منع كتابي الذي نشرت فيه المقال "أيها الشعراء لا تمدحوا"، فقد كان الشعراء يتبارون في مديح الحاكم يومئذ. ذلك لم يثنني عن مرافقة زوجي في زيارته إلى بغداد بعد عام.

الموظف منع والوزير لا يدري!

حللت مع زوجي في "فندق بغداد"، وفوجئت بزيارة شاعر سوري ربطتني به مودة، منذ أيامنا في دمشق، وكان غاضبا جدا. 

وفهمت منه أنه موظف في (الإعلام) وبعثي مقيم في بغداد، وعاتبني بحدة على مقالي هذا، وعلى مقال آخر في الكتاب بعنوان "الناس لا تبتسم بمرسوم". 

إذ صدر يومها هناك قرار بمنع "الأدب المظلم، وتشجيع الأدب المضيء". وكتبت وأدباء لبنانيين آخرين، منهم الشاعر الراحل عصام محفوظ، ضد ذلك التعبير الملتبس. وفي معركة أدبية ردوا علينا ورددنا عليهم.

وكان ضيفي غارقا في تأنيبي وتبرير منع كتابي، بدلا من الاعتذار حين فوجئ بدخول الوزير الشاعر شفيق الكمالي (وزيره) قادما للتعارف والترحيب بي. 

والمقصود مما تقدم، القول إن البعض يزايد على السلطان في القمع والمنع، والسلطان قد لا يعرف في البداية ما يدور باسمه، ويتوهم أن كل شيء على ما يرام ويألف المديح، وبعد فترة تطول أو تقصر (يقصف عمر) من لا يدين له بالولاء الأعمى ويصدق أنه الملهَم والأوحد!

عدم احترام شعور الأديب

ومنذ أعوام تلقيت، والكثير من الأدباء العــرب، دعوة لزيارة بلد عربي يريد حاكمه التعارف مع الأدباء بمناسبة مؤتمر إبداعي.

أنا شخصيا اعتذرت لأنني أباهي بأمر واحد في حياتي المليئة بالأخطاء، وهو أنني لم أمدح في عمري الأدبي كله حاكما، حتى إذا كنت معجبة به، خوفا من المساهمة في إفساده بالغرور.

وذهب الكثيرون ومن بينهم العروبي د. محي الدين صبحي، الذي مرّ بعدها بباريس والتقينا، وقال: حسنا فعلت بعدم المجيء. فقد قابلنا الحاكم بعد انتظار ساعات في الحر الخانق في الصحراء، تحت خيمة، وبعد معاناة في سيارة النقل طوال ساعتين حتى وصلنا إلى الخيمة.

وفي نظري ذلك مرفوض.

إنها "قلة الاحترام" كما يشي سلوك الرئيس الذي جاء بالأدباء ليذلهم. وعلى الرغم من ذلك، ظفر الحاكم بعدها بالعديد من مقالات المديح التي أعاد نشرها المعارضون بعد سقوطه، من قبيل التشهير بالأدباء، فهم الذين يشجعون السلطان على الاستبداد ويساهمون في "صناعة الطغاة".

نحن نصنع الديكتاتور

أعتقد بأن الحاكم العربي الذي يتحول إلى ديكتاتور لا يلام وحده، بل ثمة منظومة عربية نفسية مهيأة لفكرة عبادة الفرد ومن مظاهرها مديح الأدباء للحاكم.. وبالتالي أعتقد بأن التقاليد الفكرية والنفسية للناس التي تفرز (مديحا) هي أحد "معامل صناعة الطغاة" التي برعنا فيها نحن العرب.. 

وإننا مسؤولون عن أفعال الديكتاتور، وهي أفعال نرفضها فيما بعد، ولا يخطر في بالنا مدى مسؤوليتنا عنها، من الموظف الصغير الذي منع كتابي بينما جاء وزيره للترحاب بي، مرورا بعقلنا العربي في الممارسات اليومية، حيث نرفض الرأي الآخر، بل لا نستمع إليه، فتهمة الخيانة جاهزة لإسكات صاحبه.

وتحل بنا الكوارث، ونرمي بالمسؤولية على الحاكم، وننسى مسؤوليتنا عن بؤسنا وسوء أحوالنا.. ومهارتنا في تشييد معامل صنع الطغاة.

وبعد سقوط كل حاكم، يتم التشهير بمن مدحه من الأدباء والشعراء ومحاكمة من عمل معه، وننسى أن ما كتبوه وفعلوه هو الإفراز الطبيعي للعقل العربي الرافض لاحترام المختلف، والإنصات إليه، ومحاورته بغير إسكاته ومقاطعته، ومنع كتبه أو تحطيم الميكروفون على رأسه.

(عن صحيفة القدس العربي، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2015)