كتاب عربي 21

مهادنة الواقع لا تغيره

1300x600
غير مطلع على الكواليس الداخلية للحزب لكن الملاحظة الخارجية تكشف أن الأناة غالبة على الفعل السياسي عند حركة النهضة التونسية. كما لو أنهم وحدهم في الساحة بلا منافس يمكن أن يفتك منهم زمام المبادرة ويهمشهم أو يعيدهم إلى ما وراء البحار. أو يبدو كأنهم أخذوا ضمانات من جهة ما للبقاء في المشهد ولذلك يظهر القيادات متكلمين بروية وهدوء ويدعون إلى السلام والمحبة بكثير من المسيحية المتلاطفة. فما سر هذا الهدوء  وهل يؤدي إلى تغيير الواقع نحو الأفضل أم أن الإبقاء على الوضع دون الانهيار يعتبر في ذاته مكسبا للمرحلة؟  

وسع البال يجبر المكسور لكن بعض البتر علاج

مثل تونسي يضرب لمن يستعجل أمرا فلا يمنحه الوقت الكافي ليحصل طبقا لقانونه الخاص فجبر العظم المكسور لا يكون بسرعة الرغبة في الشفاء بل بقانون التئام الكسور. ويبدو أن الحزب يعمل بهذه الحكمة المتأنية تاركا للأشياء أن تنضج طبقا لقانونها الخاص. فهل يجوز في السياسة الخضوع إلى المحددات الخارجية والاكتفاء بالتفاعل معها بطيبة مسيحية.

يضخم النهضويون أمر الضغوطات الخارجية عليهم ويزعمون أن العالم(الغربي والمحلي) يرفض الإسلام السياسي الذي يمثلونه وعليه فإنهم يمْهِلُون العالم ليراهم  في سلميتهم التي هي أقوى من الرصاص(مثل ما هو حال إخوتهم في مصر) ويقدمون طقوس الخضوع لاشتراطات لا تنتهي من أجل إثبات قابليتهم للديمقراطية وقد أغرتهم كثيرا لعبة مواءمة الإسلام مع الديمقراطية الغربية وهم يريدون بذلك شق طريق بكر تقطع نهائيا مع حالة العداء الأزلي بين الغرب والإسلام الذي يمثلونه. وهذه الحجة تشتغل كتبرير  قوي لتأجيل المصادمات مع الغرب ومع من يمثله محليا.

يعرف النهضويون خاصة والإسلاميون عامة(ولعلهم يتجاهلون)  أنهم غير مقبولين مهما تنازلوا وبين أيديهم من الحجج ما يكفي لكي يسبروا الطريق المقابلة للخضوع. لكنهم يغيبون أمرا مهما أن العداء لهم ليس لأنهم إسلاميون بل إن العداء والرفض والإقصاء والاستئصال موجه ضدهم كما وجه لمن سبقهم ممن استشعر الغرب انه يمكن أن يكون حركة تحرر وطني ويكفي أن ننظر في الحالة الفلسطينية.(سيرة الزعيم عرفات) أو نوسع زاوية النظر إلى أمريكيا اللاتينية لنجد ما يكفي من الأدلة.

الرفض ليس للإسلام السياسي لأنه ليس هناك إسلام سياسي بل الرفض لكل فعل تحرري وطني يغار على الأمة وعلى هويتها ووجودها سواء لبس لبوس الإسلام أو لبوس الوطنية أو لبوس العروبة. وهذا ليس جديدا وإلا لماذا تم احتلال أوطان الإسلام ومنعها من التحرر وحورب كل نفس تحرري فيها قبل ظهور حركات الإسلام السياسي. الغرب يعرف ما يريد ويحارب من يراه خطرا عليه وهذا المقياس غائب أو مغيب الآن في التحليل  المؤدي إلى التموقع المهادن المتأني لحزب النهضة في المشهد. 

 إن الوعي بهذا يؤدي إلى الانحياز إلى حركة التحرر الوطني التي أتت ثورات الربيع العربي في سياقها  لتكملة ما لم يكتمل منذ حرب التحرير أو تم الالتفاف عليه في إطار استدامة الابتزاز الاستعماري للثروات والقدرات. وبالتالي فإن مهادنة هذه المرحلة لن يؤدي إلى تحرير البلد والناس والثورة  قد يؤدي إلى إنقاذ  جسم الحزب من التدمير  وهذا محتمل وليس يقينيا. لكن ماذا سيفعل هذا الجسم  الذي  أنقذ نفسه وضيع فعله؟    

هل تتحول حركة النهضة إلى حركة تحرر وطني؟

الخطاب المسموع من النهضويين يجعلهم ضمن هذه الحركة لكنهم في الاصطفاف المتوتر يضعون أنفسهم في موضع من لا يتلقي الدروس من أحد. وما بين الكٍبر والتعنّت تضيع فرص التوسع الفكري على الحزب وعلى قواعده. التي تنكمش مدافعة عن سلامة الجسم قبل سلامة المشروع الوطني.

ويصير كل تحليل يكشف الانكماش تجنيا على النضالية والتاريخ الموسوم بالمعاناة الفردية التي لم يتضامن معها أحد ذات محنة. وهو الموقف الذي  دفع إلى التحالف مع نداء تونس الذي ليس إلا رسكلة  تنظيمية للمنظومة القديمة التي اضطهدت الحزب وقواعده طيلة  ثلث قرن. ولا يطرح السؤال  كيف  يمكن لهذا الموقف الدفاعي المنكمش أن يخدم مشروع  حركة إسلامية في سياق مشروع  أمة  لا تزال ترزح تحت الاحتلال؟ 

إن ما نعنيه هنا بحركة تحرر وطني هنا ليس خروجا إلى مقاومة مسلحة. فقد انتهى زمن المقاومة المسلحة بمعناها وشكلها الذي قام ضد الاستعمار المباشر والمعركة  لم تعد صراعا مسلحا بل إن التحرر الوطني الآن وهنا في واقع معولم هو تنبي مشروع اجتماعي يغير في العمق المنوال الاقتصادي والتنموي ويحرر الإنسان من الحاجة  التي كرستها الأنظمة التابعة.

لقد تم اضطهاد المشروع الوطني الأول وتفريغه من كل عمق ثقافي تحرري ورحِّلت مطالب التحرر إلى أجل غير مسمى حتى تحولت إلى مسخرة. وفي وضع الميوعة والتبعية استشرت ثقافة الطمع والحيلة واستسهل الكثيرون  سبل الكسب الفاسدة لتكوين ثروات مادية كبيرة ولكن ضمن اقتصاد لصوصي  يسرق الدولة والمجتمع.وما نراه اليوم هو التفاف هذا المال الفاسد والإدارة الفاسدة التي تخدمه على الثورة لاستعاد ما ارتج من مواقعها بفعل الثورة وهي لم تنفك تناور وتبتز بالإرهاب المدخول وباسم الوحدة الوطنية من أجل قطع الطريق على كل نفس تحرري فعلي يربط بين مشروع وطني وبين ثورة عفوية لم يتسنَّ لها بلورة شعاراتها ومطالبها ضمن هذا المشروع نتيجة لاستشراس هذه المنظومة المتملكة لوسائل الإعلام وغسيل المخ.

والعودة إلى القول بالتحرر الوطني كمشروع طويل النفس لا كمعركة تكتيكية قصيرة الأمد هو  دعوة إلى وضع مشروع الثورة  الاجتماعية قيد التنفيذ وهنا لا يمكن للنهضة أو لأي فصيل أن يفعل ذلك وحده ولا يمكن قبل ذلك انجازها بالتحالف أو الاصطفاف وراء شق من النظام القديم مهما أظهر من خطاب الوطنية الذي يمكن اكتشاف زيفه في أول إجراء  تعديل ضريبي على رأس المال الفاسد.

هذه الأناة الظاهرة للعيان مضيعة للوقت والجهد والمصير (ووسع البال قد يجبر عظما مكسورا ولكنه لا يجبر كسر وطن) يتطلب الأمر إذن وقفة مع الذات خاصة على أبواب مؤتمر  مصيري للحزب ليحدد مشروعه الخاص ضمن حركة اجتماعية أوسع. يتم فيها اختيار الحلفاء على قاعدة المشروع الاجتماعي الوطني ضمن مشروع تحرر أمة لا فئة محدودة على أساس إيديولوجي. إن المشاركة في مشروع أكبر من مطامع قيادة الحزب وبعض قواعده المنغلقة  هي  دعوة إلى تجاوز سكتارية الحزب وتقوقعه على ذاته والبحث عن شركاء منتمين إلى الثورة يترفعون عن الاستئصال في الداخل والاستزلام للخارج الذي لم يعمل أبدا على تمكين شعب من التحرر والانعتاق وبناء ذاته وهويته. انه ميلاد مختلف لا تفيد فيه الأناة.