قضايا وآراء

المد الثوري بين النقاء والاصطفاف

1300x600
الثورة هي عمل متجاوز للقانون وتحدث عندما تفشل المؤسسات القانونية وغيرها من مؤسسات المجتمع في تحقيق العدالة؛ والثورة أيضا تهدف إلى تغيير عميق في بنية المجتمع وركائزه وليس فقط تغيير نمط علاقات السلطة أو إحلال طبقة حاكمة محل أخرى في نفس البناء المجتمعي سواء في شكل السلطة أو في علاقات القوى المجتمعية. 

والثورات الكبرى بشكل عام لا يحمل عبئها إلا الكتلة الحرجة من المجتمع والتي تشكِّل الطليعة الثورية وتكون قادرة على صناعة حالة ثورية دائمة في انتظار التحرك الكبير للجماهير؛ يقول فيدل كاسترو: "تحريك الموتور الصغير (الطليعة الثورية) من أجل تشغيل الموتور الكبير الجماهير". وهي من تدرك طبيعة المعركة وتوازن أدوات القوة مع السلطة المستبدة وتعمل على صناعة حالة من التوازن أو على الأقل تقليل الفجوة إلى أقل قدر ممكن بينها وبين السلطة أو الطبقة الحاكمة. 

وتحتاج الطليعة الثورية حتي يمكنها الوصول إلى هدفها مقدمة ضرورية أرى أن غيابها يؤدي إلى خلل بالغ وربما حدوث حالة من السيولة داخلها تمنعها قطعا من الوصول لهدفها النهائي. 

وينبغي أولا أن نفرق بين الطليعة الثورية وهي النواة الصلبة لأي ثورة كبرى وبين الكتلة الثائرة حيث الأولى هي الحاملة للثورة والثانية هي الداعمة لها؛ والفارق بين الاثنين لابد أن يكون واضحا وفارقا لأن التمازج بينهم ربما يكون سلبيا على الثورة بل ومدمرا لها. 

هناك الكثير من المقدمات الحتمية الواجبة في الطليعة الثورية؛ ولكن أهمها بل والعامل الحاسم لها أن تكون الثورة مؤدلجة تؤمن بمجموعة من الأفكار الكلية الجامعة إيمانا مطلقا؛ وهذه الأفكار تكوِّن وحدة متكاملة "حتي من وجهة نظر أعضائها" تكون قادرة على صناعة التفاصيل وعلى تقييم الإجراءات ووضعها بشكل صحيح داخل البناء المجتمعي التي تطمح إليه؛ وبناء على ذلك فإن وجود أيديولوجيات متعددة داخل الطليعة الثورية "وإن اتفقت على معظم الإجراءات والتفاصيل" يؤدي حتما إلى غياب هذا العامل الحاسم ويسرع بتفتيت الطليعة الثورية ويُسهِّل من مهمة الثورة المضادة. لذا كان النقاء الأيديولوجي للطليعة الثورية عاملا لا يجب تجاوزه. 

وكلما زاد النقاء الأيديولوجي داخل النواة الصلبة كلما يصعب اختراقها بل ويصعب تعامل الثورة المضادة معها؛ ويقل احتمال خفوتها ؛ ولكنها تحمل عيبا خطيرا ألا وهو تحول المعركة إلي معركة صفرية في الغالب بين السلطة القديمة وبين تلك النواة الصلبة مما يؤدي إلي صدام عنيف. 

ويرى البعض أن النقاء الثوري هو عامل لتقليل الدعم الشعبي أو الحاضنة الشعبية وربما يكون للطرح وجاهته؛ ولكن المعادلة ليست عكسية إلى هذه الدرجة؛ فمع النقاء الثوري "الكامل"؛ ما تكسبه الثورة من إرادة الكتلة الصلبة مع استمرار النضال أرى أنه أكثر بكثير من خسارة جزء من الحاضنة الشعبية. 
فالنقاء إذا للطليعة الثورية وهي النواة الصلبة أما الاصطفاف فهو مع الكتلة الداعمة دون إقحامها داخل النواة الصلبة للثورة؛ وهذه الكتل بالتأكيد جزء هام من الحراك الثوري ولكن على الموجودين بالكتلة الصلبة إدراك أن دخول عناصر أو أفكار أيديولوجية مختلفة داخل بنية النواة الصلبة يؤدي حتما إلى تفتيتها لاحقا بل وربما تدميرها تماما؛ وأيضا على الكتلة الداعمة إدراك أن وجودها مرتبط بالتعامل مع شكل وطبيعة وأيديولوجية النواة الصلبة وقبولها دون الذوبان داخلها والاحتفاظ بأفكارها وأيديولوجياتها كي تستطيع ممارسة العمل السياسي في مناخ يمكنها فيه ذلك؛ لذا فالضمانة الوحيدة التي يجب أن يحصلوا عليها هي حق تداول السلطة. 

وهنا تأتي الأزمة الكبرى التي تعاني منها مجتمعاتنا التي تفشل ثوراتها واحدة تلو الأخرى؛ فحجم التباين الكبير بين الأيديولوجيات في المجتمع المصري كمثال أكبر من هذه المحاولة؛ حيث يصعب على المؤدلجين الإسلاميين من جهة أو اليسار والفكر الليبرالي العلماني من جهة أخرى؛ خاصة المنظمة منها؛ تصور أنه تقوم تمهيد الأرض بعمل ثوري حتى يقوم "الآخر" بتغيير التوجه العام للنظام بأكمله من أجل احترام تداول السلطة. 

لذا أرى استحالة مشاركة تيارات شديدة التناقض "على طرفي النقيض" وتختلف في الأصول الفكرية والتصورات الكلية داخل عمل ثوري واحد يحمل المعنى الحقيقي للثورة؛ ونموذج 25 يناير الذي بدأت الاختلافات الحادة ربما منذ الأيام الأولى خير دليل. وتبقى الكتلة الداعمة الحقيقية هي من تؤمن بالمرجعية التي تطرحها النواة الصلبة حتي مع الاختلاف في رؤيتها لبعض الأمور الكلية والاختلاف أيضا مع الكثير من التفاصيل ولكن يبقى الاطار الجامع واحدا للجميع سواءا الكتلة الصلبة أو الداعمة؛ وأرى أن ذلك يفسر تحرك الكتل العلمانية المنظمة لمساندة العسكر؛ والعسكر هم المنوط بهم تدمير أي عمل ثوري ينتج شكلا لمجتمع مؤدلج وخاصة إذا كان إسلامي النزعة. 

إن مراحل الثورة تختلف عن العمل السياسي؛ واحتياج الثورة للنقاء الأيديولوجي هو ضرورة لتكوين مجتمع مستقر تالٍ يسمح في حالة الاستقرار بتداول السلطة تحت الإطار المرجعي والعمل السياسي بشكله المعروف .

وتحدث الأزمات والاختلافات عند خلط العمل السياسي داخل الأطر الثورية فلا يوجد في السياسة هذا النموذج ولكن الكل سواء والكل على قدم المساواة؛ وهذا مقبول في المجتمعات التي استقرت على الأطر الكلية (المجتمعات الغربية العلمانية نموذجا)؛ لذا يرى بعض السياسيين أن الاصطفاف بين أيديولوجيات مختلفة وتعاونها في عمل ثوري هو الهدف الأسمى والحل النهائي ويبذلون الكثير من الجهد في سبيل تحقيقه؛ وعندما تواجههم بحكايات التاريخ القريب فإنهم يحيلون سبب الفشل إلى أخطاء ما بعد الاصطفاف؛ وأرى أن تلك الأخطاء كانت موجودة بداية في النواة الصلبة للثورات الغير مؤدلجة بتواجد أيديولوجيات متعددة داخلها؛ فهي أخطاء بنيوية لا يمكن تجاوزها مهما تغيرت التفاصيل. 

لا يوجد سياسة في مجتمع غير مستقر لم يتفق بعد على القيم الحاكمة ولا الأطر الكلية؛ وطالما استمر الصراع في اتجاه الايديولوجيات ولم يتفق على أيديولوجية حاكمة فلن يستقر المجتمع أبدا بآليات العمل السياسي ويحتاج دائما إلى حكم أعلى من الأيديولوجي يسيطر على الموقف بقتل العمل السياسي وأيضا يكون الضامن لعدم اكتمال ثورة نقية أيديولوجيا تفرض رؤيتها على الغير وتعيد تشكيل المجتمع بناء على الأفكار الكلية الحاكمة؛ ويحولها إلى حالة من تفريغ الغضب وإعادة ترتيب الأوراق دون الإخلال بالقواعد الرئيسية للنظام القائم، ويمثل العسكر في مصر هذا الضامن. 

السياسة تأتي بعد استقرار المجتمع علي مرجعيته الذي تحققه الثورة؛ وتداخل السياسة في الثورة يفسد الاثنين معا وتداخل النقاء الأيديولوجي للنواة الصلبة للثورة مع الاصطفاف السياسي يضيع الثورة ويقتل السياسة. فالثورة تتحرك دائما للأمام بقوة دفع الإرادة والإيمان المطلق وتؤمن بالهروب للأمام. أما السياسة فتنتظر لترى مآلات الأمور وتتحرك في مسارات ليست بعيدة عن الأرض الممهدة. يقول تشي جيفارا إن "الثورة ليست مثل تفاحة تسقط عندما تطيب، ولكنك لا بد أن تجعلها تسقط".