كتاب عربي 21

هو ألماني وليس سودانيا

1300x600
أعيش في منطقة الخليج منذ معركة القادسية، ومن ثم فإن الكثيرين من أهلي ومعارفي المقيمين في وطني (السودان)، يحسبون أنني غارق في النعيم، بل وأن لي حصة من عائدات النفط في عدد من دول المنطقة، ليس حباً في سواد عيوني، بل اعترافاً بأنني الوريث الشرعي الوحيد لعنترة بن شداد العبسي (وأنا جعفر العبسي). 

وبالتالي فإن نصيبي من الإرث العنتري نفط خام، أبيعه بكيفي ومزاجي في السوق الأسود مثل حظي، وبالتأكيد فإن العمل في منطقة الخليج منحني مستوى معيشياً لم أكن أحلم به عندما دخلت الحياة العملية في السودان، وأتاح لي السكن والراتب المريحين، ولكنني مثل العمالة المهاجرة كلها، لا أملك ترف اتخاذ قرار بترك العمل والاستمتاع بـ"التقاعد"، فلن يكون لي راتب تقاعدي، وعاجلاً أو "عاجلاً جداً" سيصلني خطاب: شكر الله سعيك.. وأعطنا عرض أكتافك.

ولكن وتحسباً لمثل تلك المفاجآت غير السارة، فقد حصلت على عدد من شهادات الميلاد، التي تثبت أن الذي بيني وبين سن التقاعد كالذي بين طالبان والأمريكان، وبالضرورة فمع شهادات الميلاد المزوّرة، ولكن موثّقة ومعتمدة بصورة قانونية، عندي جوازات سفر، ويفيد بعضها أنني من مواليد 1975، وبعضها أنني ما زلت طالب دراسات عليا. 

وتبعاً لذلك، فإن لدي شهادات دراسية وشهادات خبرة عملية بطريقة لكل حادث حديث، مثلاً بكالوريوس يفيد بأنني تخرجت في الجامعة في عام 1975، وآخر بأن سنة التخرج كانت 1985، وثالث بأن ذلك كان في 1993، وتبعاً لذلك فإن شهادات الخبرة العملية تحمل تواريخ تتواءم مع شهادات الميلاد ونيل الدرجة الجامعية، إلخ (انتبهت إلى أن إحدى الشهادات كانت شاطحة للغاية، لأنها تفيد بأنني تخرجت في الجامعة وعمري دون الثانية عشر)، المهم وباختصار: لو مد الله في أيامي فلن أغادر منطقة الخليج ما لم أسمع أن السودان قدم قرضاً لليابان.

ولكن "نفسي" وأمنيتي أن أتقاعد، أن أنال حريتي. أتصرف بوقتي كما أشاء، فهناك كتب كثيرة أختزنها، وأتمنى لو أملك الوقت لقراءتها، وكتب أخرى أتمنى تأليفها، وفي الوقت نفسه لا مانع عندي من أن أظل أعمل حتى أموت أو أصاب بالعجز التام، ولكن دون دوام رسمي ورئيس أو مدير.

ولهذا حسدت الألماني آرنو دوبل، فعمره الآن 54 سنة، وترك المدرسة وعمره 16 سنة ليصبح نقَّاشاً، أي عامل دهان وطلاء، ولكنه سرعان ما قال لنفسه "ما بدهاش"، ولم يلتحق بعمل طوال حياته، فما حاجته للعمل والحكومة الألمانية ظلت تعطيه شهرياً وبانتظام 650  يورو، أي نحو 800 دولار. 

وقد سبق للسيد دوبل أن ظهر في العديد من البرامج التليفزيونية ليجيب على التساؤل: لماذا ظل عاطلاً لنحو 40 سنة؟ وكانت ردوده منطقية: العمل مرهق ويبدد القوى، ولهذا لا يعمل سوى الأغبياء، و"الجميل" في الموضوع أنه كان يتقاضى نحو 700 دولار عن كل مشاركة تليفزيونية. 

وأكثر ما أعجبني في دوبل هذا أنه كسول محترم. كسول على مستوى، فعنده مدير «أعمال»!! نعم شخص ليس عنده عمل وعنده مدير أعمال، ودور مدير الأعمال هذا هو أن يشتري له -مثلاً- تذاكر القطارات والطائرات، وتوصيل وجبات الطعام الجاهزة، (هذا الشخص ألماني وليس سودانياً يا من تفترون أكاذيب عن كسلنا).

وفي ألمانيا جمعية للكسالى تشجع أعضاءها على تقليد الدببة، والمعروف أن الدببة القطبية تروح في نومة حوالي 6 أشهر، وتصحو على أقل من مهلها، وتذهب إلى حيث تتوافر أسماك السالمون وغيرها، فتصطادها دون بذل كثير جهد، وليت قارئاً يجيد الألمانية يسأل صاحبنا هذا نيابة عني: عندك مانع نتبادل جوازات السفر يا آرنو دوبل؟

أنا معذور في إبداء إعجابي برجل طفيلي، لأنني جاهدت بالناب والظفر في وطني كي أكسب قوتي، ولكنه ضاق بي فهاجرت، وكلما عدت إليه في إجازة وقعت في كمين الضرائب والجبايات. 

حكومة لم تقدم لك أو لعيالك خدمة من أي نوع على مدى أكثر من ثلاثين سنة عشتها خارج حدود بلدك، وتفرض عليك ضرائب بمسميات عجيبة، فلا تملك إلا أن تهتف: ربنا على المفتري.