مقالات مختارة

هيرتزل لم يعد يعيش هنا

1300x600
حينما دعا نتنياهو اليهود الفرنسيين إلى البحث عن حياة آمنة في إسرائيل كان يردد خطاباً صهيونياً عفا عليه الزمن "هل بإمكاننا البقاء هنا، وهل بإمكاننا الأمل في أيام أفضل"؟ 

كان هذا هو السؤال الذي طرحه تيودور هيرتزل بشأن مستقبل اليهود في أوروبا في كتيبه "الدولة اليهودية" الذي نشر في عام 1896، وأصبح من بعد النص المؤسس للحركة الصهيونية".

كانت إجابته على السؤال، بكل وضوح، مؤلمة: “كل الناس الذين نعيش بين ظهرانيهم يكرهوننا، سواء سراً أو جهراً.”والخلاصة كما عبر عنها أن اليهود لن يكونوا آمنين إلا في دولة مستقلة خاصة بهم.

بعد أكثر من مائة عام، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يردد ما خلص إليه هيرتزل كلمة بكلمة تقريباً. فحسب ما قاله نتنياهو كان الهجوم القاتل على سوق الأطعمة اليهودية في باريس تذكيراً آخر لليهود الفرنسيين بأن هناك علاجاً واحداً داء معاداة السامية الذي يعانون منه، ألا وهو الهجرة إلى إسرائيل، المكان الوحيد الذي بإمكان اليهود أن يعيشوا فيه بأمان.

من خلال عباراته تلك يثبت نتنياهو ولاءه لنمط من التفكير الصهيوني القديم الذي لا يرى مستقبلاً لليهود خارج إسرائيل ويعتبر استمرار العيش في الشتات ليس فقط خطراً ولكن أيضاً غير مشروع. وبمجرد قيام دولة يهودية مستقلة في إسرائيل غدا وجود اليهود في أوروبا وفي غيرها من الأماكن وجوداً مؤقتاً حسب هذه النظرية، التي ترى وجوب أن يهاجروا إلى إسرائيل ليس فقط تحقيقاً لمصلحتهم ولكن أيضاً كجزء من واجبهم كيهود.

لأسباب واضحة لم تستسغ الحكومة الفرنسية تصريحات نتنياهو، والتي اعتبرتها تعبيراً عن عدم الثقة بقدرة الحكومة على حماية مواطنيها وتدخلاً في نسيج المجتمع الفرنسي ذاته. وحينما قال رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس "فرنسا لن تبقى فرنسا" إذا ما غادرها اليهود – كان يحاول طمأنة الجالية اليهودية ولكنه في نفس الوقت سعى إلى سحب البساط من تحت أرجل نتنياهو ونزع المصداقية من كلامه.

الإسرائيليون يشككون بالدعوة إلى الهجرة

لا تقتصر المعارضة على ما صدر عن السلطات الفرنسية، فهذا ناتان شارانسكي، رئيس الوكالة اليهودية والذي رشح لهذا المنصب من قبل نتنياهو نفسه، يقول إن إسرائيل لا ينبغي لها أن تبدو كما لو كانت "ترقص على الدماء" التي سفكت في أحداث باريس. وفي مقابلة مع القناة الإسرائيلية الثانية، قال إنريكو ماسياس، وهو مغني فرنسي شهير له شعبية واسعة في إسرائيل، إن يهود فرنسا "لا ينبغي أن يهاجروا خوفاً من معاداة السامية وإنما انطلاقاً من رغبتهم هم في العيش في إسرائيل".

كانت الصهيونية – كما عبر عنها هيرتزل – تقوم على إنكار الشتات كخيار أمام اليهود للعيش بكرامة وفي أمن. ألا أنه بمرور الزمن تراجعت هذه المقاربة المتعنتة، وتعلمت إسرائيل كيف تتقبل يهود الشتات كحقيقة واقعة وحتى أقرت بإضفاء المشروعية على عيشهم خارج إسرائيل.

ولا أدل على ذلك من موقف إسرائيل تجاه يهود أمريكا، إذ لا يجرؤ سياسي إسرائيلي جاد على دعوة اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية إلى المجيء إلى إسرائيل – وليس هذا فقط بسبب الخوف من رد الفعل الأمريكي. وذلك أن الجالية التي تعدادها ستة ملايين يهودي أمريكي تعتبر أحد أهم ثروات إسرائيل في الولايات المتحدة وربما حتى في العالم بأسره.

بينما يدور نقاش ساخن حول مدى أهمية اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل في تشكيل السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط إلا أنه ليس بإمكان أي شخص جاد أن ينفي أهميته لإسرائيل، ونتنياهو نفسه، الذي قضى أكثر من عقد من الزمن أيام شبابه في الولايات المتحدة، بارع في الاستفادة من نفوذ هذا اللوبي. والنموذج الآخر في هذا المجال هو شيلدون أديلسون، الملياردير الذي أنفق 100 مليون دولار ثمناً لإعلانات ضد الرئيس باراك أوباما ويملك صحيفة يومية في إسرائيل اسمها "إسرائيل هايوم" تدعم دعماً مطلقاً صديقه الحميم نتنياهو.

يهود أمريكا "ثروة إستراتيجية"

الاعتراف بأهمية الجالية اليهودية في أمريكا طغى على الموقف من الإسرائيليين الذين هاجروا من إسرائيل إلى الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى مدى سنوات عديدة تم تجاهل هذه الجالية التي يبلغ تعدادها نصف مليون إنسان، بل ونظر إليها بنوع من الازدراء، لأن هؤلاء من خلال هجرتهم من إسرائيل شكلوا تهديداً للمبدأ الصهيوني الأساسي الذي ينص على أن إسرائيل هي أفضل وآمن مكان لليهود في العالم.

في السنوات الأخيرة غيرت إسرائيل الرسمية من سياستها تجاههم، وساهم أديلسون نفسه المذكور أعلاه بسخاء في دعم منظمتهم الجديدة التي تسمى "مجلس إسرائيل الأمريكي"، والتقى بهم مسؤولون إسرائيليون مثل وزير الاقتصاد نفتالي بينيت وشارانسكي وقدموا لهم التهاني على كونهم "ثروة إسرائيل الإستراتيجية"، وبذلك أضفوا الشرعية ليس فقط على الشتات اليهودي في الولايات المتحدة ولكن أيضاً على اليهود الإسرائيليين الذين فضلوا العيش في أمريكا على العيش في أرض الميعاد.

إلا أن قصة الجالية اليهودية في فرنسا تختلف نوعاً ما، فالأغلبية العظمى منهم، أي ما بين 80 إلى 95 بالمائة، قدموا إلى فرنسا من شمال أفريقيا منذ خمسينيات القرن العشرين وما بعدها، أما اليهود الأشكناز القدامى فإما أنهم ذابوا في المجتمع اليهودي أو هاجروا إلى أماكن أخرى.

وهذا دانييل بن سايمون، وهو كاتب وصحفي إسرائيلي ولد في المغرب وعضو سابق في البرلمان الإسرائيلي عن حزب العمل، يصف هذه الجالية بأنها "الأكثر يهودية" مقارنة بالجاليات اليهودية الأخرى في العالم ويؤكد أنها كذلك الأكثر "إسرائيلية". ويبين دانييل بن سايمون بأن اليهود من المغرب والجزائر وتونس كانوا قد انقسموا إلى قسمين: نصفهم هاجر إلى فرنسا بينما هاجر النصف الآخر إلى إسرائيل.

ولذلك يوجد لدى كل يهود فرنسا تقريباً أقارب من الدرجة الأولى أو الثانية في إسرائيل، وهم يزورونهم بشكل منتظم، وقد اشتروا عقارات في إسرائيل ويشعرون بحق أنها تمثل بالنسبة لهم وطناً ثان. كثيرون منهم يتكلمون العبرية، كما يقول بن سايمون، وحينما تزور بيوتهم في فرنسا ينتابك شعور بأنك في إسرائيل، بما تحتويه بيوتهم من صور لمواقع في إسرائيل إضافة إلى صور الحاخامات.

النجاح الباهر ليهود فرنسا

ولكن في نفس الوقت، كما يؤكد بن سايمون، تمثل قصة يهود شمال أفريقيا في فرنسا نجاحاً باهراً. فبعد جيل أو جيلين في فرنسا ارتقوا إلى أعلى المواقع في كافة مناحي الحياة. يقول بن سايمون إن بعض كبار المفكرين الفرنسيين، والسياسيين، والصحفيين ورجال الأعمال هم يهود من أصول شمال أفريقية. جار بن سايمون، بروفيسور سيرجي هاروش، اليهودي من الدار البيضاء، فاز بجائزة نوبل للفيزياء في عام 2012.

هذا النجاح الذي تحقق لليهود في فرنسا يقابله نقيضه بين أقربائهم الذين هاجروا إلى إسرائيل، الذين مازالوا بعد ستين عاماً من موجات الهجرة الكبيرة يحتلون أدنى المراتب في المجتمع اليهودي الإسرائيلي. يقول بن سايمون ليس من غير الشائع أن ترى يهودياً فرنسياً يترأس جامعة في باريس يزور أخاه الإسرائيلي الذي يعمل عاملاً يدوياً ويعيش في شقة متواضعة جداً في بلدة ريفية في موقع بعيد عن تل أبيب.

نظراً لارتباطهم القوي بإسرائيل فإن دعوة نتنياهو ليهود فرنسا بالهجرة إلى إسرائيل، كما يبين بن سايمون، تجد صدى عميق لديهم أكثر بكثير مما يمكن أن تجد لدى غيرهم من اليهود في أماكن أخرى من العالم. ولكن هؤلاء اليهود إذ يدعون للهجرة يتوقع منهم أن يتخلوا عن بلد فتح لهم ذراعيه واحتضنهم، ربما أكثر بكثير مما فعلت إسرائيل لدى استقبالها أقرباءهم حينما حلوا فيها.

ككثير من المراقبين يتوقع بن سايمون أن يكون لدعوة نتنياهو تأثير محدود على يهود فرنسا. قد ترتفع نسبة الهجرة بعض الشيء ولكنها لن تكون كموجات هجرة اليهود الذين غادروا الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

ما من شك في أن الرغبة في تحقيق مكاسب انتخابية كان ولو جزئياً وراء قرار نتنياهو تقديم نفسه كبطل للكرامة اليهودية والصهيونية، والظهور بمظهر الشخص الوحيد القادر على تخليص اليهود من أعدائهم. لكن تصرفه هذا يعكس أيضاً التزامه العميق بالأفكار الصهيونية كما يعتنقها.

ما لم يدركه نتنياهو أن الدنيا تغيرت خلال المائة عام الماضية منذ هيرتزل. لقد تعلم المزيد من الإسرائيليين كيف يعتبرون الانتماء إلى الشتات اليهودي حالة طبيعياً، بل شيء يمكن أن يطمع المرء فيه ويتطلع إليه – وخاصة في مدن مثل نيويورك ولوس أنجيليس وحتى برلين.هناك تناقص في عدد اليهود الذين يعتبرون إسرائيل ملجأ آمناً لهم. تمثل رؤية نتنياهو المحافظة للصهيونية ما يشبه المفارقة التاريخية.



ميدل إيست آي