كتاب عربي 21

"شارلي" بين التعبير والكراهية

1300x600
لنكن واضحين من البداية، لن يقوم الإرهاب بردع الرسامين، خاصة الساخرين منهم. الإرهاب يستعرض غباءه بمجرد استعماله القتل كطريقة للرد على رسم أو صورة. 

ومثلما صور ببراعة رسام كاريكاتوري برازيلي، فقد أطلق الأخوان الكواشي النار على  صورة الإسلام والرسول عليه السلام، وليس فقط على المصورين العزل لصحيفة تتهجم عليهما. الإرهاب الديني المتطرف في صيغته الإسلاموية من "القاعدة" إلى "داعش"،  بأفعاله الغبية والمتوحشة على السواء، كاريكاتور وكوميديا سوداء تمشي على ساقيها  مخلفة الأشلاء والدماء، ضحاياها من العرب والمسلمين أكثر من الغربيين. 

عدى ذلك يستحق الخط التحريري لـ"شارلي إيبدو" رداً احتجاجياً مكتوباً.  والحنق والكراهية الواجبة تجاه الإرهابيين لا يجب أن تبرر الرسوم التي تشيع الكراهية. وأكبر الأوهام المحيطة بـ "#أنا_شارلي" أن تصبح الجريدة مثالا ًعلى مبدأ "حرية التعبير". 
هناك سلسلة من المغالطات يجب تفكيكها بصبر حتى نفهم أننا إزاء عملية تزييف تخفي البذاءة والكراهية القروسطية وراء ستار حداثي مخادع، واننا إزاء موقف سياسي يكيل بالمكيالين، وأن "شارلي إيبدو" ليست منبراً للتعبير الحر المجرد من  السياسة وتوظيفها. 

كنت ناقشت منذ سنوات أثر الرسوم الكاريكاتورية في صحيفة "جيلاند بوست" الدانماركية من زاوية "خطاب الكراهية" اليميني ذي الأصول القروسطية وليس من زاوية "حرية التعبير" الحداثية المجردة من التاريخ. يتم انتقاد وتفكيك الإسلام بشكل متكرر في السياق الغربي، ويجب أن ندين عرباً ومسلمين الكثير من الناقدين الأوروبيين الحداثيين بحق وبأسلحة موضوعية وعلمية، شحذهم الحس النقدي تجاه العقل الديني عموماً والإسلامي خصوصاً. غير أن ميزة كاريكاتور "شارلي إيبدو" هو البذاءة الملحة. والمشكلة هنا ليس النوع الكاريكاتوري الساخر بل تحديداً ومرة أخرى البذاءة التي تشيع الكراهية. 

مثلما قلت حينها: "إنه من المغالطة التشكيك في الطابع العنصري لهذه الصور تحت عنوان أنها "إشكالية فقط"،  فكيف يمكن أن نصف موضوعياً صورة الرسول برأس ذي ملامح شيطانية بديهية، وفي الوقت نفسه بشكل يشبه القنبلة؟ كيف يمكن أيضاً أن نصف شكل الرسول وعيناه مغمضتان بعصابة وبشكل بشع وخلفه امرأتان بملامح بلهاء؟"

لو عدنا إلى الإرث القروسطي الذي يتقاطع في نقطة البذاءة وخطاب الكراهية  مع النماذج الكاريكاتورية لـ"شارلي إيبدو"؛ لوجدنا "خطاً تحريرياً" مشابهاً للصحيفة الفرنسية. مثلما كنت كتبت كان هناك خطاب ثابت ومنظم يستهدف تشويه الرسول كسبيل رئيسي لتشويه المسلمين، الذين كانوا يسمون في الخطاب اللاتيني "Saracens". 


وبلغ هذا الخطاب خلال القرن الثاني عشر الميلادي نقلة نوعية، خاصة من حيث طبيعة الاتهامات وانتظامها وتحولها إلى صيغ ثابتة يتم ترديدها عبر المجال المسيحي الأوروبي. 

ففي هذه الفترة كتبت أربع سير للرسول باللغة اللاتينية من قساوسة ورهبان، لقيت رواجاً كبيراً في الأوساط المدرسية المسيحية، ساهمت في ترسيخ أفكار ثابتة عبر الإعلاء من قيمة سلسلة من القصص المختلقة في التراث الفلكلوري المسيحي، تركز على أنه "محتال" و"متعطش للدماء". وهكذا باستعمالها المخيال الشعبي المسيحي كمصدر أساسي ساهمت هذه السير التأسيسية لصورة الرسول في الغرب المسيحي، ليس فقط في إعادة تصويره في المخيال المدرسي بل أيضاً في ترسيخ الصورة الشعبوية عوض تصحيحها. 
  
وهكذا ظهرت أول الصور من هذا النوع ضمن مؤلفات متأثرة بالسير الأربعة التأسيسية، ومن هذه الصور المبكرة صورة لشخص يشبه وحشاً غرائبياً وذا لحية طويلة وردت في مخطوط لاتيني من القرن الثاني عشر ميلادي بعنوان "في ظهور محمد" (De generatione Machumet) لراهب فرنسي من دير Cluny. صورة أخرى لقيت رواجاً من حيث استنادها لروايات فلكلورية مسيحية، وتهتم خاصة بقصة وفاة الرسول حيث تتحدث عن "أكل الخنازير" للرسول، وتترجم الصورة هذه الرواية من خلال تصوير شخص الرسول برفقة خنزير وذلك في مخطوط يرجع إلى أواسط القرن الثالث عشر ميلادي. 

في الحقيقة "خطاب الكراهية" الواضح في أصوله القروسطية تجاه الإسلام في الخط التحريري لشارلي إيبدو، يتوارى تحت غطاء "حرية التعبير" الحداثية. في المقابل يبرز "خطاب الكراهية" بمجرد أن يتعلق الأمر باليهود والديانة اليهودية

يجب أن نقول إن هناك مثلما حال الإسلام، تاريخ طويل من الكراهية في السياق  الغربي المسيحي القروسطي تجاه اليهودية، التي تفوق أحياناً كثيرة ما تعرض إليه الإسلام والمسلمون. وقد قام عدد من الباحثين بدراسات عديدة حول الصور الخاصة باليهود، ومن أهمها موسوعة أنجزها هاينز شراكنبرغ Heinz Schreckenberg بعنوان "اليهود في الفن المسيحي: تاريخ مصور" أرخ فيها بالصور للعلاقة الوطيدة بين صور الكاريكاتور التي راجت في صحف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، خاصة خلال حملات معادية لليهود والصور القروسطية حولهم وغيرهم من غير المسيحيين، وتم اعتبار الصور المعاصرة الكاريكاتورية الحداثية ذات أصول قروسطية "معادية للسامية". من بين الأمثلة على هذه العلاقة هي استعمال غطاء رأس مهين خاص باليهود، ورسم وجوه الشخوص اليهودية بأنوف معقوفة وطويلة، وهي خصائص استمرت مع بداية رواج الرسم الكاريكاتوري في تصوير اليهودي حتى فترة قريبة بما في ذلك خلال المرحلتين الفاشية في إيطاليا  والنازية في ألمانيا.

وهنا يتعرى الخط التحريري لـ"شارلي إيبدو". حادثة الرسام "سيني" (Siné)  سنة 2008 المثال الأبرز على أن حرية رسامي الجريدة محدودة بخط تحريري يفرق في الحالة اليهودية تحديداً، لأسباب سياسية بديهية، بين حرية التعبير وخطاب الكراهية. 

إذ اعتبر مدير تحرير الصحيفة أحد رسوم "سيني"، التي علقت على زواج ساركوزي من ثرية يهودية، بأنها "معادية للسامية" وحاول إجباره على تقديم اعتذار وهو ما رفضه الرسام. القضية التي تداولتها المحاكم الفرنسية أنصفت الرسام على حساب مدير التحرير، وأرغمت الصحيفة على تحمل مصاريف القضية. 

المهزلة تكتمل أخيراً عندما يتصدر بيبي نتنياهو الصف الأول للمسيرة المنددة بالإرهاب. وبذلك لم يقم إرهابيو "القاعدة" و"داعش" بتشويه مضاعف للإسلام، بل قاموا أيضاً باختراع المنصة المسرحية المثالية في قلب باريس ليمثل فيها أكبر الإرهابيين صفاقة دور الحمامة.