سؤال كانت قد أثارته في إحدى محاضراتها، الداعية الإسلامية الأمريكية أمينة السلمي (أسلمت سنة 1977 وتوفيت سنة 2010)، مبدية دهشتها من عدم معرفة نسبة كبيرة من المسلمين جوابه الصحيح، لتتساءل بعدها بحسرة: "إن لم يكن المسلمون يعلمون سبب ارتداء النساء للحجاب، فكيف نتوقع من غير المسلمين معرفة السبب إذًا؟".
بحماستها الإيمانية المتدفقة أجابت أمينة السلمي عن سؤال "ماذا تعني قطعة القماش التي تضعينها على رأسك؟" الذي قالت عنه إنه أكثر ما يطرحه الغربيون عليها، بقولها "بأننا نلبس
الحجاب لنبرز هويتنا الإسلامية، ولنقول للآخرين بأننا مسلمات، وأننا فخورات بإسلامنا، وهو الجواب الذي ذكره القرآن في الآية الكريمة ((ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ))".
بحسب الآية الكريمة التي ذكرتها الداعية أمينة، فإن الحكمة من تشريع الجلباب إنما كانت لتعرف به هوية المرأة المسلمة، بعفتها وحشمتها ووقارها، فلا يطمع فيها مريض القلب، ولا يجرؤ على التعرض لها أحد، لكن هل حددت الشريعة هيئات تلك الجلابيب التي أمرت بإدنائها أم تركت الأمر لعادات المسلمين وأعرافهم التي تختلف باختلاف أحوالهم في البلاد التي يعيشون فيها؟
كما ثارت وتثور أسئلة حول تسمية لباس المرأة بالحجاب، فمن أين جاءت كما هو شائع في التداول الإسلامي؟ وما علاقة الحجاب الوارد في آية الأحزاب بلباس المرأة؟ وهل الحجاب خاص بنساء النبي (أمهات المؤمنين) أم عام بجميع نساء المؤمنين؟ وهل يصح ما يقال من أن حكمة الأمر بالجلابيب هي تمييز الحرائر من الإماء؟ وهل ثمة فروق في العورات بينهن؟ وهل خص الشرع الحرائر بالجلابيب، ومنع الإماء منه، ما يعني جواز التعرض لهن وإيذائهن؟
الحجاب لا علاقة له بلباس المرأة
استغرب الدكتور منصور أبو زينة، أستاذ مساعد في التفسير وعلوم القرآن في جامعة اليرموك الأردنية، ربط لباس المرأة بالحجاب، مبينا أن كلمة الحجاب الواردة في آية الأحزاب ((وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ))، لا علاقة لها بلباس المرأة فهي تعني الساتر والحاجز، والتوجيه فيها للصحابة بأن يسألوا زوجات النبي عليه الصلاة والسلام من وراء ساتر وحاجز.
وأبدى أبو زينة لـ"عربي 21" تعجبه من استدلال القائلين بوجوب غطاء وجه المرأة بالآية الكريمة، إذ لا وجه فيها للدلالة على ذلك، فالحجاب الوارد فيها معناه الساتر المكاني، فكيف يستدل بها على وجوب غطاء وجوه عامة المسلمات؟
وفيما يتعلق بالجدل الدائر حول آية الحجاب إن كان الأمر فيها عاما يشمل سائر نساء المؤمنين أم أنه خاص بأمهات المؤمنين، رجح أبو زينة خصوصيتها بأزواج النبي عليه الصلاة والسلام، لقرينة السياق، وأنها جاءت لتخصهن بقدر زائد عما أمرن به في آية الإدناء ((يا أيها النبي قل لأزواجك... يدنين عليهن من جلابيهن)).
من جانبه وفي السياق ذاته، فصل الدكتور حسن شموط، عميد كلية الشريعة في جامعة جرش الأردنية، في حديثه لـ"عربي 21" أقوال المفسرين والعلماء في آية الحجاب بقوله: "اختلف العلماء في تحديد المخاطب في هذه الآية، فبعضهم جعل الخطاب خاصا بنساء النبي عليه الصلاة والسلام، والبعض الآخر تمسك بعمومية اللفظ ، وشموله لكافة نساء المسلمين".
وبحسب شموط فإن جمهور أهل العلم أخذو بعمومية اللفظ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وتمسكا بالعلة التي ذكرت في الآية ((ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن))، مستشهدا بما قاله الشنقيطي في أضواء البيان: "والعلة في هذه الآية المتضمنة هذا الأدب السماوي الكريم الكفيل بالصيانة والعفاف وحفظ الكرامة والشرف، معممة لحكم الآية في جميع نساء المسلمين إلى يوم القيامة".
هل الحجاب خاص بالحرائر دون الإماء؟
يَكثر في التراث التفسيري عند تفسير قوله تعالى ((ذلك أدنى أن يعرفن)) تعليل ذلك بقولهم – كما في تفسير القرطبي - "حتى لا يختلطن بالإماء، فإذا عرفن لم يقابلن بأدنى من المعارضة مراقبة لرتبة الحرية، فتنقطع الأطماع عنهن، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى تعلم من هي" مستشهدين بأن عمر بن الخطاب كان إذا رأى أمة قد تقنعت ضربها بالدرة، محافظة على زي الحرائر".
ذلك التفريق في اللباس بين الحرائر والإماء أثار انتقادات كثيرة حول مشروعية التفريق بين الحرائر والإماء في العورات واللباس، وبحسب الدكتور حسن شموط فإن الإسلام دعا إلى ستر المرأة، وأمرها بالحجاب، وهذا الحكم لم يفرق فيه بين النساء البالغات، لكن بعض أهل العلم ممن أوجب تغطية وجه المرأة قال بعدم وجوب ذلك على الإماء، فرأى أن الحرة تغطي وجهها، والأمة تكشف وجهها للتمييز بينهم.
وحول ما شاع من التفريق في التراث الفقهي بين عورة الحرة والأمة، أقر الدكتور شموط بأن بعض أهل العلم جعلوا عورة الأمة كعورة الرجل، منبها أن ذلك المسلك لم يكن مقبولا عند علماء آخرين كابن حزم وابن تيمية، ومن المعاصرين الألباني الذين رفضوا التفريق بين عورة الحرة والأمة، لعدم وجود أدلة شرعية معتبرة في التفريق بينهما، "فدين الله واحد والخلقة والطبيعة واحدة، فكل ذلك في الحرائر والإماء سواء، حتى يأتي نص في الفرق بينهما في شيء فيوقف عنده" على حد كلام ابن حزم الظاهري.
بدوره أوضح الدكتور رضا الدقيقي، الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر بطنطا، أن مناسبة نزول آية الإدناء تذكر أن أناسا من فساق المدينة ومنافقيها كانوا يخرجون بالليل إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، حين خروجهن لقصاء حاجتهن، فإذا رأوا امرأة تلبس جلبابا، قالوا هذه حرة، فكفوا عنها، وإذا رأوا امرأة لا تلبس جلبابا، قالوا: هذه أمة فتحرشوا بها.
ووفقا للدقيقي فإن مناسبة نزول الآية ليست علة منشئة لحكم الإدناء تزول بزواله، بل حكمها تشريع مستمر باقٍ، نافيا أن يكون هذا دليل على جواز التعرض لأية امرأة حرة كانت أم أمة، فالمبدأ الأخلاقي في الإسلام عام يشمل الجميع وقد تقدم النهي عن الإيذاء في قوله تعالى ((وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)) [الأحزاب:58].
لباس المرأة بين الأحكام الشرعية والتقاليد المجتمعية
وردا على سؤال "عربي 21": هل أوضحت الشريعة صفة الجلباب المأمور به؟ وهل حددت له هيئات وكيفيات معينة؟ أجاب الدكتور رضا الدقيقي بأن الأوامر الواردة في القرآن الكريم في قوله تعالى ((وليضربن بخمرهن على جيوبهن)) وفي قوله تعالى ((يدنين عليهن من جلابيهن)) أمرت النساء بتغطية الرأس والعنق وما يليها من النحر وأعلى الصدر، وإدناء الجلابيب بأن يكون مسدولا حول الجسم حتى الأرض.
في سياق مقارب رأى الأكاديمي السعودي المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور الشريف حاتم العوني أن هيئات الحجاب متروكة لأعراف الناس، وأن الشرع حدد للحجاب شرطين فقط: أولهما أن يكون ساترا لما يجب ستره (على الخلاف المعتبر في الوجه)، ومن لوازم ذلك أن لا يشف عما تحته، وأن لا يكون ضيقا يحجم العورة تحجيما كاملا".
أما شرطه الثاني بحسب العوني فهو أن لا يكون زينة في نفسه، والزينة قد تختلف مقاييسها باختلاف
الأعراف، وما سوى ذلك فهو من تأثير الأعراف وتدخلات التقاليد التي لا ينبغي أن تحرف الأحكام الشرعية وتخرجها عن حدودها المنصوص عليها.
وجوابا عن سؤال "عربي 21" حول مظاهر التحريف التي داخلت الحجاب في الممارسات المجتعية؟ أجاب الشريف العوني بأن لذلك مظاهر كثيرة، منها اشتراطهم اللون الأسود، واشتراط أن يكون عباءة، توضع على الرأس، ويحرمون وضعها على الكتفين، وكأن يقطع بعضهم بتحريم كشف وجه المرأة، ولا يكتفون بالترجيح الظني، متجاهلين أدلة الجمهور من السلف والخلف.
وأكدّ الشريف العوني أن تلك الشروط خارجة من رحم الاحتكام للعادات والتقاليد، وليست أحكاما شرعية مسنودة بأدلة صحيحة، ولا يصح نسبتها للشرع؛ لأن الحجاب في الشرع لا يشترط له لون معين ولا تفصيل خاص، ولا هيئة محددة في اللبس، ولا يُشترط فيه اللون الأسود، وأي لون ليس زينة بنفسه، فهو جائز أسود كان أو أبيض، لونا صافيا أو مختلطا بألوان أخرى، ولا يشترط في الحجاب أن تكون عباءة، فقد يكون ثوبا ساترا فضفاضا (كالذي يسمى بالبالطو أو الكاب).