كتاب عربي 21

التطور السياسي لطه حسين

1300x600
من الأمانة مع أعلام الفكر، ومن الإنصاف لهؤلاء الأعلام، تتبع مسيرتهم الفكرية، ورصد ما حدث لهذه المسيرة من تطورات، ذلك أن تجاهل هذه التطورات، وما شهدت من مراجعات، إنما يمثل "خيانة للأمانة" في كتابة الأفكار.

وعلى سبيل المثال، فلقد مر طه حسين - عبر مسيرته الفكرية - بأربع مراحل، الأولى مرحلة الشيخ طه حسين من سنة 1908م حتى سنة 1914م، والثانية وهي مرحلة انبهاره بكل ما هو غربي فيما بين عامي 1919 و1930م، والثالثة مرحلة الإياب التدريجي للنموذج الحضاري الإسلامي - مع تعرجات وتناقضات - من عام 1932م وحتى ثورة يوليو 1952م، ثم المرحلة الرابعة وهي مرحلةالإياب الكامل والحاسم إلى العروبة والإسلام من عام 1952م وحتى وفاته.

ولم يكن الفكر وحده هو ميدان هذه التطورات والتغيرات، وإنما كانت السياسة أيضا موضوعا لما أصاب طه حسين من تطور وتغيير.

ففي العشرينيات، وبعد انقسام قادة ثورة عام 1919م، إلى "عدليين" مع عدلي يكن (1280- 1352هـ، 1864 – 1933م) وإلى "سعديين" مع سعد زغلول (1233 – 1346 هـ ، 1857 – 1927م) وقف طه حسين مع العدليين ضد السعديين، ومع حزب الأحرار الدستوريين ضد حزب الوفد، وكان الكاتب الأول في صحافة الأحرار الدستوريين، حتى لقد حققت معه النيابة عام 1924 في تهمة التهجم على زعيم الأمة ورئيس الحكومة سعد زغلول، وعندما توفي سعد زغلول عام 1927 كان طه حسين في بيروت، وعندما سمع الخبر جزع، وقال: "لم يكن لي من هو أكثر عداوة منه"!، كما نقلت زوجته في كتابها عنه.

لكن حقبة الثلاثينيات، قد شهدت ضعف أحزاب الأقلية التي عجزت عن الدفاع عن طه حسين في أزمة كتاب "في الأدب الجاهلي" عام 1932م، كما دافعت عنه في أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" عام 1926، وذلك لوفاة عبد الخالق ثروت وعدلي يكن، فانتقل طه حسين إلى صحافة حزب الوفد - تحت زعامة مصطفى النحاس- وأصبح أبرز كتاب الوفد، فتحولت كتاباته - ومن ثم عن سعد زغلول - مائة وثمانين درجة! فكتب عن سعد زغلول، الذي لم يكن له من هو أكثر عداوة منه، يقول: "إن كل ما ألم بمصر من مكروه منذ مات سعد، قد ألم بها في حياة سعد، وقد عرف سعد كيف يلقي المكروه، ويصبر عليه ويخلص منه، وعلم أبناءه المصريين كيف يتأثرونه ويسيرون سيرته ويتخذونه لهم إماما، وكل ما تبلوه مصر من خير وشر وكل ما تذوقه مصر من حلو ومر في هذه الأيام بعد أن مات سعد، قد بلته مصر وذاقته مصر في تلك الأيام حين كان سعد حيا، وقد رأت مصر سعدا وهو يبلو ما تبلو، ويذوق ما تذوق، ويرسم لها طريق الظفر، وينهج لها نهج الفوز، ويتقدمها إلى التضحية إن كانت الحاجة إلى التضحية، ويتبعها إلى إجتناء الثمرات إن إتيح لها إجتناء الثمرات، لقد عرف سعد كيف يملك قولب المصريين، وكيف يملؤها بشخصه العظيم، فما قدرت عليه مصر في حياة سعد ستقدر عليه دائما بعد موت سعد، لأن هذه القدوة الصالحة التي أقامها هذا الرجل العظيم لا يمكن أن تضعف، ولا أن يبلغها الفناء، لقد أصبح حب سعد في مصر وفي الشرق شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وظلها مبسوط على النفوس كلها وعلى القلوب كلها وعلى الأجيال القائمة وعلى الأجيال الناشئة، فليس إلى استئصال هذه الشجرة ولا إلى تضييق ظلها من سبيل".

وكتب طه حسين - وهو الأزهري - عن سعد زغلول الأزهري يقول: "لقد أنشأ سعد مدرسة القضاء الشرعي يريد بها إصلاح القضاء فأصلحه وأصلح معه فنونا من التعليم وفنونا من التفكير وأبوابها من الحياة العقلية لا في مصر وحدها بل في الشرق العربي كله، وكان سعد - رحمه الله - أزهريا كالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكان سعد رحمه الله قاضيا أهليا، فكان سعد إذا صلة حسنة بين هذين النوعين من القضاء المصري".

وهكذا تحول طه حسين مائة وثمانين درجة، فكتب هذا الذي كتبه عن سعد زغلول - في الثلاثينيات - الذي كان - في العشرينيات - أكثر الناس عداوة له، وتلك حقيقة تستدعي تتبع تاريخ الأفكار، ورصد التطور الفكري لكبار المفكرين.