كتب مطاع صفدي: كل الذرائع التي تمسكت بها أطروحة التردد السياسي إزاء تحولات المحنة السورية تهاوت جميعها، واختفت تدريجياً في خطابات
أوباما وسلوكياته. فإذا كانت حجته الكبرى في فقدان البديل المعتدل والديمقراطي ما بعد السقوط الأسدي، هذا البعبع صار له اسم وواقع وخطر عظيم، إنه داعش ومشتقاتها.
فالبعبع لم يعد نائياً في احتمالات المستقبل، إنه محور الحدث الشرق أوسطي هذه الأيام، ولأيام أخرى غير محدودة. لكن أوباما الذي يلجأ إلى الاعتراف العلني بأخطاء مواقفه، وإن كان ينسب أسبابها إلى أعطال في أجهزته الاستخبارية، إلا أنه لا يسعى حقاً إلى التعويض عن الضلالات ببعض التصحيحات لقراراته وتصرفاته الحالية.. ليس هناك أي تراجع عملي؛ فالرجل يكاد لا تحركه سوى رغبة واحدة وحيدة منذ اندلاع المحنة، وهي حماية الحد الأدنى من وجود النظام الأسدي. هذه الرغبة العجيبة التي تشبه هوساً عاطفياً لا معقولاً، لعبت دور العامل الثابت الوحيد في مسلسل متغيرات السلوك الأمريكي الأوبامي منذ أكثر من ثلاث سنوات.
فلقد ارتكبت سياسة أمريكا السورية كل أصناف التحويلات المفهومة وغير المفهومة إزاء حدثيات الثورة السورية المجهضة، لكنها لم ترتكب، ولو لمرة واحدة «خطيئة» التخلي عن ديكتاتور دمشق خاصة حين يكون على وشك المواجهة الحاسمة مع نهايته.
لقد أنقذته أمريكا من أخطر عثراته الكبرى. كانت له أشبه بملاك الرحمة الذي يسارع إلى تلبية المستغيث به.
اليوم لا يجد أوباما أية غضاضة في التصريح العلني أنه أخطأ في تقدير الموقف من
سوريا جملة وتفصيلاً، لم يوضح لماذا كان يستمع إلى نوع من الاستشارات الاستخبارية في الوقت الذي يهمل فيه آراء الأهم من زملائه من حوله. فقد خرج الكثيرون من بطانة رئاسته احتجاجاً على خياراته المترددة. فيما يتعلق بالمواقف غير المبررة تجاه الثورة السورية. كأن تردّي أحوال المنطقة العربية عامة لا يثير لدى الرئيس، الإنساني جداً، أية تساؤلات عن الجدوى السلبية لمنهجه.
فما هو هذا اللغز العجيب الذي يربط أوباما بعدوه أو صديقه الألد الأسد. هل هو واحد من ألغاز الاستراتيجية (العميقة) لسياسة أمريكا الدولية،أم أن المشكلة تعود كلياً إلى مجرد خطأ في التقدير الشخصي، لكنه عندئذ سيكون ذلك الخطأ الذي لا يمحو آثاره اعترافُ صاحبه بعد فوات الأوان بآثاره المدمرة ؛ حتى وإن كانت مصائر شعوب وأمم كاملة تكاد أن تتساقط تحت سيول من الأهوال الكلية غير المسبوقة في تاريخ المجازر الإنسانية الكبرى. فإن إعطاء حرية القرار والحركة لأعتى عتاة العصر يفعلون ما يشاؤون بشعوبهم تحت أنظار العالم كله، لا يشكل هذا الموقف، مجرد خيار سياسي عابر. ذلك أن استعصاء الحل في سوريا كان يعني شيئاً واحداً وهو ترك الحرب بلا نهاية. وإطلاق حرية العمل لمنطق المقتلات الجماعية المتواصلة.
فهل كان ما يسمى بالمجتمع الدولي مصمماً على سحق الوجود العربي كلياً من خارطة الحضارة الإنسانية، بتفجير مكوناته الدولانية والمجتمعية وجعله قاتلاً ومقتولاً بأيدي أبنائه.
عندما اختار أوباما، ووراءه آلته الدبلوماسية الجبارة، موقف الحياد إزاء المقتلة السورية المطلقة، لم يكن صادقاً كذلك مع الحد الأدنى من أخلاقيات هذا الحياد المستعار. فلقد عملت إدارته طيلة ثلاث سنوات على تحريف وحرق وتشويه كيان المعارضة بمختلف أساليب الخداع، اللفّ والدوران، والاستغلال الرخيص لكل الأهداف وعكسها في وقت واحد. هناك موسوعة (مبدعة؟) من أفانين الدبلوماسية القذرة التي اتبعتها دبلوماسية أمة كبرى كأمريكا تجاه حفنة من رجال مغتربين تائهين بين شعارات عظمى للتحرير المقدس وبين مطامح شخصية عابرة. كانت مكامن الضعف الإنساني لدى الكثيرين من هؤلاء المتعاطين للعمل العام باسم الثورة، عُرضةً للاستثمار السياسوي الخبيث من دهاة تلك الدبلوماسية الأمبريالية.
ها هو أوباما، عندما يصرح علناً عن أخطائه. لا يبدو نادماً على أفعاله، بل كأنه لايزال يتابع مقتلات الثورة المضادة الشعبوية في سوريا والعراق، بذات وسيلة هذا التحشيد العالمي للمقتلة الكلية العظمى.
كأنه ينوي أن يتمم أو يختم مسلسل المذابح الأسدية والداعشية، وذلك بإطلاق وقائع المذبحة الكلية للشعوب، ولكن تحت تسميات حروب الأحلاف العالمية والإقليمية. لن يغير أوباما شيئاً من منطق السلسلة القاتلة نفسها، وإن كان يفترض أنه حان الوقت لابتكار حلقتها النهائية الشاملة، بهذا الجحيم الجديد الذي سوف يملأ أرض وسماء الوطن العربي المعذب، فلم تعد لدى أساتذة الأكاديمية الأمبريالية حلولُ عجائبية أخرى للكوارث الإنسانية التي تسوّغها مذاهبهم الإيديولوجية قبل أن تتسلَّمها أيدي قادتهم العسكريين.
وخلال هذه الأيام الدموية تُساق قطعان الأغنام العربية إلى مسالخها من دون أي اعتراض. حتى عندما يتناطح بعض ثيرانها ضد بعضهم الآخر، فلا خوف من تشتيت القطيع، ذلك أن وحدته التجانسية كقطيع لا تلبث أن تعيد تجمعه؛ كذلك الأمر في مسيرته العمومية الواحدة، لم يستطع «
الربيع العربي» أن يحدث ثمة فرقاً ما، كأنْ يطرح نوعاً آخر من وجود الجماعة، أن يتيح الاعتراف بوجود الجماعات ليس كقطعان أغنام فحسب، بل كذلك كأفراد أحرار، ليسوا بَعْدُ حكاماً ولا محكومين.
خبراء العلوم الإنسانية في مراكز «التفكير» الأمريكية راهنوا منذ بداية المسألة الاستشراقية على استمرارية الصياغة القطيعية لمكونات الاجتماع العربي. ولقد اعتُبرت هذه الصياغة أنها ليست فعلاً خارجياً، بل هي وليدة لاصقة بالظهور العربي والإسلامي في التاريخ. ولقد دعاها بعض الأوروبيين بالنزعة الخلاصية. فالبنية الجمعية تلعب دوراً أشبه بالقوقعة التي تحمي أجساد حيواناتها الرخوة. إنها ملجأ الأمن للفرد الفاقد لوسائل حمايته من العوامل الطبيعية أو الخارجية.
وهنا يلعب تشكيل القطيع دوره المميز. إنه يسلب الفرد حريته مقابل منحه شيئاً من الرعاية أو الحماية الجماعية. لكن وظيفة الحماية هذه لا تلبث أن تنزاح وتتلاشى أمام تصاعد غرائز التسلط الجمعي التي ستمارسها الكتل الأقوى في الفضاء العمومي. فتنبثق (مؤسسة الدولة) باعتبارها تشكل مركزية العنف المشروع وحده، المولج بمبدأ حماية النظام العمومي. فهي المشرّعة الأولى لأحقية الطاعة التي من دونها لن تقوم قائمة لكينونة الاجتماع الإنساني عامة.
لكن هنا مكمن الإشكال الفلسفي وليس الحقوقي فقط، فاختلفت الآراء والمذاهب حول معايير المعادلة الدقيقة التي ستحدد العلاقة ما بين حدّي الحرية والطاعة. والثقافة العربية، وفي جانبها الديني خاصة، تعاني من تداعيات هذه الإشكالية، وإنعكاساتها على خلفية قضايا السياسة والدين والثورة؛ فالاستعمار، قديمه وجديده، استوعب تطبيقات مهمة وخطيرة من تقاليد الطاعة وتربيتها المتأصلة دينياً وأخلاقياً، كطبيعة ثانية لدى الأجيال العربية المتلاحقة. هكذا اشتغلت مؤسساته على تنمية بذور الخضوع الجماعي وأسبابها الثقافية والمدنية، في تنشئة كل جيل على حدة. وكان التدين هو المعين الأول الذي اغترفت منه مذاهب الاستبداد الحاكمة، والحليفة الدائمة لقوى الاستعمار، وتسويغاته القديمة.
هذه التربية الرعوية المعممة أنتجت في النهاية أقسى الصياغات المتعضية للروح الجمعانية. فالنكسة الهائلة نحو أعنف السلوكيات المتطرفة للتدين، لا يمكن فهمها إلا بإنحسار فعالية الفكر الحر من مجالات التحشيد الاجتماعي.. إنها إعادة انصباب الوجود الجماهيري في قوالب الكتل العقائدية،مما يسهل على أصحاب المخططات الخبيثة، استثمارات لا نهائية لنفسيات الطاعة والانجذاب إلى القطبيات التحريفية هنا وهناك، القائدة للجماعات الكبيرة.
أوباما اليوم، ومعه كامل سياسة الغرب إزاء المسائل العربية والإسلامية، يجدد الثقة لدى فئة الأستراتيجيين المعادين لحريات الأمم، باعتماد القدرة المعرفية لتنويعات من الدبلوماسية المتذاكية التي سجلت انتصارات عنيفة لاستخدام العقل العلمي في تدمير الأمم، كما مارسها هذا الرجل الذي يصرح بالفم الملآن بأضاليله حين يقولها بلهجة المنتصر وحتى المفتخر. فلقد خاض معركة كبرى واكتسب نتائجها.. أبطل ثورة الربيع العربي، أو أنه عطلّ مواسمها إلى حين. دافع عن، وحمى (الغرب). من خطر آخر ثورات الربيع الثقافي العالمي، ولا يزال يدعي أنه متحكم في قطعان الأغنام، الذين لن يبنوا مدنية أخرى لهم وللإنسانية المقهورة معهم يوماً ما..
(عن صحيفة القدس العربي 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2014)