كتاب عربي 21

أبو مازن وصورة الفلسطيني في الوجدان العربي

1300x600
بجرأة وصراحة وفجاجة لا يحسد عليها، صرح أبو مازن في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي، أن الانتفاضة الفلسطينية كانت كارثة وفوضى دمرت الشعب الفلسطيني، وأنه لن يسمح بقيام انتفاضة أخرى، وأنهم متمسكون بالتنسيق الأمني مع إسرائيل لحماية للفلسطينيين (هل يقصد حمايتهم من أنفسهم؟!)، وأنهم لا قبل لهم بمواجهة إسرائيل لا عسكريا ولا غير عسكريا!

وبصرف النظر عن تهافت وهزيمة وفشل خيارات أبو مازن السياسية في التفاوض والتنازل والاعتراف، إلا أنه في كل مرة يدلى بمثل هذه التصريحات التي تقلل وتستهين وتسخر من قيمة نضال الشعب الفلسطيني وصموده، فإنه يقوم من حيث يدرى أو لا يدرى، بتوجيه طعنة لصورة الشعب الفلسطيني المستقرة في الوجدان العربي منذ عقود طويلة.

فلفلسطين وشعبها مكانة وقداسة من نوع خاص، فكل من يعيش اليوم في الوطن العربي على اختلاف عمره، تربى منذ أن وعى على الدنيا، على مأساة فلسطين وحكايتها، فهي تلك الأرض العربية التي تم اغتصابها من بيننا وأمام أعيننا، تحررنا جميعا بعد الحرب العالمية الثانية، وبقيت هي مغتصبة،  وهى الأرض التي تضامنا في البداية للدفاع عنها وتحريرها، ثم سرعان ما تخلينا عنها وانفض الجميع من حولها، انشغالا بالهموم القطرية، أو خوفا من إسرائيل وأمريكا، لنتركها وحيدة تواجه مصيرها ضد آلات القتل الغربية الصهيونية ولنكتفي كل حين وآخر بإصدار بيان أو تصريح ذرا للرماد في العيون.

ولإدراك الشعوب العربية جيدا أن المشروع الصهيوني يهدد كل الأمة بقدر ما يهدد فلسطين، ورغم ذلك تركوها تواجه مصيرها وحدها، فإن فلسطين أصبحت تشكل عقدة الذنب الرئيسية لدى كل منا.

فمع كل يوم يستمر فيه الاحتلال لأرضها، أو يتكرر العدوان على شعبها، يشعر كل مواطن عربي أنه شريك في هذا الاحتلال والعدوان بشكل أو بآخر، فيؤرقه ضميره وكأنه ارتكب جريمة أو معصية.

ومما يزيد ويشعل من أزمة الضمير العربي تجاه فلسطين، هو حجم البطولات والتضحيات التي لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن تقديمها جيلا بعد جيل على امتداد مائة عام، رغم حجم العدوان والقوة الباطشة التي يواجهها، ورغم وقوفه وحيدا أمامها.

وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن فلسطين كانت بمثابة المدرسة التي تعلمنا فيها ومعها دروسا مصيرية وحقائق قاسية، كما كان صمود ونضال شعبها ملهما على الدوام للحركات الوطنية العربية: 
تعلمنا معها كيف تآمر علينا العالم على امتداد قرن كامل في أكبر جريمة استعمارية دولية؛ منذ بلفور والانتداب البريطاني والتقسيم والنكبة والإعلان الثلاثي ثم 242 وكامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو.

وتعرفنا فيها لأول مرة على معنى العنصرية والإرهاب والمذابح والقتل والإبادة والاغتيال والإبعاد والتهجير واللاجئين والأسرى والمخيمات والمعابر والعالقين والمبعدين والاستيطان والتهويد والحصار والتجويع. 

ورأينا فيها كيف تصنع الشعوب المستحيل وتقاوم جيلا بعد جيل رغم الخلل الهائل في موازين القوى، رأيناه في ثورتها الكبرى وفي الكفاح المسلح و الأعمال الفدائية وحركات المقاومة والانتفاضات والعمليات الاستشهادية.

ومن رموزها صنع الشباب العربي قدوته ونماذجه النضالية أمثال أبو جهاد ،أبو اياد ،أبو عمار ،أحمد ياسين ، الرنتيسي، فتحي الشقاقي، سناء محيدلي، دلال المغربي، آيات الأخرس، محمد الدرة، أطفال الحجارة، رائد صلاح، والآلاف غيرهم. 

وفي ساحات معاركها الوطنية والعقائدية، صاغت الأمة مواقفها بشعارات ومبادئ يحفظها ويتبناها كل عربي وطني من المحيط إلى الخليج مثل: من البحر إلى النهر، لن نعترف بإسرائيل ، لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، صراع وجود وليس حدود .

بل وأصبح إحياء ذكريات المعارك ضد العدو الصهيوني، ذكريات الاعتداء أو المقاومة، من المهام والطقوس الدائمة على برامج الحركات السياسية العربية: النكبة، دير ياسين، كفر قاسم، النكسة، معركة الكرامة، حريق المسجد الأقصى، حرب الاستنزاف، حرب أكتوبر،  تل الزعتر، يوم الأرض، عملية الليطاني 1978، سلام الجليل 1978، حصار بيروت 82 وصبرا وشاتيلا، الحرم الإبراهيمى، قانا، انتفاضة الحجارة، انتفاضة الأقصى، حرب تموز، السفينة مرمرة، ، الرصاص المصبوب، عامود السحاب. وأصبحت الشعوب العربية تُقَّيم حكامها وتحاسبهم وفقا لمواقفهم من القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني، الذي تكسرت وانهارت على صخرته شرعيات أنظمة وحكومات وحكام عرب كثيرين، فكانت قضية فلسطين مفرزة عربية وطنية كبرى. 

كل ذلك وغيره الكثير أدى إلى أن تقترن فلسطين والشخصية الفلسطينية في الوعي العربي على امتداد ما يزيد عن قرن من الزمان، بكل القيم والمعاني النضالية المثالية كالمقاومة والشهادة والتضحية والفداء والبطولة والصمود، وأصبح الفلسطيني عندنا، عن حق، هو ذلك الإنسان المحتل المطرود المطارد المهجر اللاجئ المقاوم الأسير الشهيد المظلوم المحاصر العالق على المعابر،الموقوف على الحواجز، المضطهد صهيونيا ودوليا وعربيا، الذي لم ينكسر أبدا.

ولذلك، حين كان ينوى أي نظام عربي أن يبيع القضية و يصطلح مع إسرائيل، فإنه كان يمهد الطريق بالعمل على تشويه وشيطنة صورة الشعب الفلسطيني لدى مواطنيه، بحزمة من الأكاذيب مثل: إنهم خونة، باعوا أراضيهم، إرهابيون، منقسمون، يهددون الأمن القومي، مرتزقة، غير واقعيين، يتصارعون على السلطة وعلى المناصب والرواتب، تجار للأنفاق...الخ  

ولكن سرعان ما كنت تنكشف أكاذيبهم أمام أعمال المقاومة وتضحياتها.

لكن أن يتم التشويه هذه المرة على أيدي شخصية فلسطينية، ويا ليتها أي شخصية، فهو رئيس السلطة الفلسطينية، فيعلن على الملأ أنهم جبناء، لا قِبَّل لهم بالعدو الذي اغتصب أراضيهم وشردهم وقتلهم، وأن المقاومة لا تعدو أن تكون لغوا ودمارا على الشعب الفلسطيني، الذي عليه أن يستسلم تماما لإسرائيل وأن يحتمي بها وأن ينسق معها وأن يطارد أبناءه من المقاومين والمقاتلين ويسلمهم إليها، فإنه ليس في هذا الرجل أو فيما قاله أي شئ من فلسطين التي نعرفها.

من أنت يا رجل؟