كتاب عربي 21

في حيثيات تغول "داعش" والبعد التونسي في قلب الصراع

1300x600
لنبدأ ببديهيات أساسية بالنسبة للتطورات الحالية في العراق. لم تكن "داعش" ممكنة لولا حالة الاحتقان العميقة في الأوساط السنية العراقية إزاء حكم المالكي الذي غرق في الطائفية على مستوى التركيبة وعلى مستوى القمع. فكك ذلك تدريجيا "الصفقة" التاريخية التي أبرمها الجنرال باترايوس بداية من الموصل في سنة 2007 والتي سمحت بعزل العشائر السنية في شكل "صحوات" عن التنظيم الناشئ" الدولة الاسلامية في العراق". تعرية التنظيم وكشفه للأضواء بعيدا عن "الحاضنة الشعبية" السنية جعله هشا وضعيفا ومحاصرا ولم يستطع باترايوس القيام بذلك بدون سياسة التنظيم التي استعدت السلطة العشائرية وتحدتها وحاولت استئصالها حتى. سياسات حكومة المالكي الطائفية الفجة من جهة وتغيير تكتيكات "داعش" التي اولت للعشائر مكان الشريك وليس الخاضع من جهة أخرى خلق تدريجيا ارضية مشتركة بين الطرفين تمثلت ببساطة في وحدة داعشية-عشائرية على قاعدة استهداف "الروافض". 

تغيير التكتيكات الملفت للانتباه تمظهر بشكل مطرد من خلال حملة "الاستتابة" التي قادتها "داعش" على قاعدة المغفرة للعشائر وشيوخها الذين انخرطوا في "الصحوات" حيث تراجعت الرغبة في الثأر على حساب التدبير السياسي الذي يسمح بمسافة للتراجع والتحالف. "الاستتابة" التي تم تسجيلها وتوثيقها وبثها ضمن فيديوات "صليل الصوارم" تتمثل في محافل استتابة جماعية في مساجد او منازل يتم فيها التعهد بشكل جماعي على فك الارتباط مع المالكي. "وثيقة المدينة" التي اصدرتها "داعش" بمجرد السيطرة على الموصل باسم "المكتب الاعلامي لولاية نينوى" تنص في النقطة السابعة على ما يلي: "علماؤنا وشيوخ عشائرنا ائمتنا وخطباؤنا تاج الرؤوس وأنس النفوس". المساواة بين شيخ الدين وشيخ العشيرة هو التعبير الاكثر دقة على الوعي العميق من قبل "داعش" على أن شرط تركزها في السياق العراقي هو الحلف مع العشيرة.

التركيبة العراقية لـ"داعش" ترسخت عبر مسار يتجاوز الاحداث الراهنة. الانقلاب الرئيسي تم تحديدا بمجرد موت الزرقاوي والتزامن بين صعود زعيم عراقي للتنظيم (أبو عمر البغدادي) مع تغيير صفته الى هوية عراقية عبر تسمية "الدولة الاسلامية في العراق". وبمجرد قتل "ابو المهاجر" المصري الذي سُمي كـ"وزير دفاع" للتنظيم وخاصة بعد صعود أبو بكر البغدادي اصبح من الواضح أننا إزاء تنظيم بقيادة عراقية بالاساس مطعمة بعدد من الضباط السابقين في الجيش وقوات الامن العراقية ليس فقط ممن تحولوا الى السلفية حتى قبل الاحتلال الامريكي بل ايضا ممن تحولوا اليها بتأثير من هيمنة الخطاب "السلفي الجهادي" على الاوساط السنية التي كانت في مواجهة مع القوات الامريكية. 

يجب ان نثبت امرا اساسيا في سياق كل هذه البديهيات. العشائر السنية تلعب دورا رئيسيا فيما يحدث الان، لكن من اكبر الاخطاء التي يمكن ارتكابها تهميش دور "داعش" واعتبارها عجلة خامسة لدى العشائر. الوهم الاكبر بلا شك هو اعتبار ما يجري عودة للبعث العراقي وشبح عزت الدوري عبر تنظيم "الطريقة النقشبندية". الفيديوات التي تسجل ما يجري بدون وسائط والمراسلين الميدانيين الذي ينقلون صورا واضحة بلا غوغائية دعائية:  القوات المقاتلة الان من الموصل الى مشارف بغداد امتدادا غربا نحو الحدود العراقية مع كل من سوريا والسعودية تحارب بالاساس تحت راية "داعش". العشائر هي العضلات و"داعش" هي الراس المدبر واللسان والواجهة الدعائية. 

نحن الان بصدد مشاهدة زلزال ضخم لا يقل اهمية عن زلزال "الربيع العربي". تحول نسخة على يمين "القاعدة" متمردة عليها، بصبغة محلية بعيدا عن الاصل الافغاني-السعودي. تحول "داعش" من تنظيم الى ما يمكن ان يمثل بعض شروط الدولة، حيث لا توجد موارد مالية ضخمة فحسب بل ايضا احتمال موارد باطنية خاصة نفطية ضخمة (من كركوك في العراق الى الحسكة) ولو انه حتى الان لا يمكن الحديث عن بدئ تصرف "داعش" فيها، وجيش يحوز على اسلحة ثقيلة، وجهاز لاستخلاص الضرائب. وفوق كل ذلك يحصل هذا التحول الضخم في قلب المنطقة العربية، العراق والشام، على مشارف اسرائيل وفي المنطقة الفاصلة بين الاستقطاب الثلاثي الايراني-التركي-السعودي. غول "داعش" ومداها التدميري امر واقع. واي استهانة بها واحتقار لتغولها خطوة أخرى تغذي استقوائها. 

أخيرا. آخر الاوهام التي تستوجب التفكيك: "الربيع العربي" الذي انطلق في تونس لم يخلق "داعش". ما خلق "داعش" هو حالات القمع الدموي الذي قاده الاحتلال (وبالتالي قبل "الربيع العربي") في اوساط سنية تم تهيئتها بشكل متصل وثابت للتفكير فقط ضمن معادلة طائفية حصرا. ما دعم "داعش" وانعشها هو القمع الدموي الذي واجه "الربيع العربي" في ربيع 2011 في سوريا والعراق وجعل من التحركات السلمية من اجل قيم انسانية جامعة مستحيلا. 

عندما ننظر بعيون تونسية للتطورات الحالية يجب ان نقر أمرا اساسيا. منذ تشكل التنظيمات "الجهادية" في العراق اثر الاحتلال الامريكي وتحت الانف الكبير لبن علي توجه شباب تونسيون كثر الى هناك خاصة منذ سنتي 2004-2005. "وثائق سنجار" التي تقدم عينة عن توزع المقاتلين الاجانب "المهاجرين" في العراق قبل ثورات "الربيع العربي" بالاضافة الى مؤشرات اخرى كثيرة (بروز السجناء والانتحاريين التونسيين، تفجير مرقدي الامامين الهادي والعسكري في سامراء سنة 2006 على سبيل الذكر لا الحصر). الشخص الذي كان مكلفا طيلة فترة طويلة بتأمين مرور جملة المقاتلين الاجانب من سوريا الى العراق (وبدعم من النظام السوري) كان شخصا يدعى "أبو عمر التونسي".  

الحضور الراهن للمكون التونسي في "داعش" بارز بشكل لا يقبل الشك. اذ لعبت العناصر التونسية في "داعش" دورا محوريا تحديدا في الحملة التي سبقت افتكاك الموصل. فحسب تقرير وكالة "رويترز" للأنباء بتاريخ 1 ماي 2014 (نقلا عن موقع "فلاشبوينت بارتنارز" الذي يتابع بدقة المصادر السيبرنية لـ"داعش") تم إحصاء 14 انتحاريا تونسيا في عمليات متفرقة في العراق بين شهري مارس وافريل من هذه السنة. هذا الحضور يعني بلا شك أن تغول "داعش" البعيد الاف الاميال في العراق ليس حدثا بعيدا عن تونس في نهاية الامر. وبالتأكيد سيكون من الخطأ الفادح التعامل مع يجري من باب التعاطف "مع السنة ضد الشيعة"، وأن لا نرى في استعار نار الحرب الطائفية مدخلا تدميريا طويل الامد لقلب المنطقة العربية، وان شراراتها ليست بعيدة عنا. وهكذا لا نواجه في تونس فقط مطرقة شهوات الردة الانقلابية لدى انصار النظام القديم على مسار الديمقراطية بل يتقاطع معها ايضا سندان التهديد الارهابي الذي يدفع نحو التوحش بهدف التغلب وفرض وجه جديد من الطغيان القديم. وبين هذا وذاك قدرنا ان نشق طريقنا بين العاصفتين.