مقالات مختارة

العراق سيطارد بلير إلى قبره

1300x600
كتب ديفيد هيرست: سيظل قرار طوني بلير غزو العراق عام 2003 كابوساً يلاحقه حتى موته، فذلك القرار وحده هو الذي سيضمن عدم تقلد بلير لأي منصب سياسي رفيع من جديد في بريطانيا أو في أوروبا. كان ذلك قراراً كارثياً على أعلى مستويات صنع القرار لدرجة أن طوني بلير، ورغم مرور أحد عشر عاماً، لايزال يناضل في سبيل منع الحقيقة من أن تظهر كاملة. 
 
من المؤسف أن يخضع  السير جون تشيلكوت، والذي استغرق تحقيقه حول تداعيات الغزو خمس سنوات، لحظر  أخير فرض عليه حينما وافق على نشر ما لا يتعدى “الخلاصة وبعض النقول” من الرسائل الخمس والعشرين التي وجهها طوني بلير إلى جورج دبليو بوش ومن سجلات المحادثات التي بينهما والبالغ عددها 130. لم يستسغ ذلك حتى رئيس وزراء سابق مثل جون ميجر الذي انتقد هذا التهرب من نشر الحقيقة مشيراً إلى أن طوني بلير نفسه هو الذي أجاز قانون "الحرية في الحصول على المعلومات".
 
مارس بلير درجة عالية جداً من الخداع حينما كتب  يوم السبت (الماضي) ما مفاده أنه يتحدث “بتواضع” حول القرارات الصعبة التي اضطر إلى اتخاذها عندما كان يترأس الحكومة بعد الحادي عشر من سبتمبر، فالتواضع كلمة لا يجوز أن تستخدم لوصف رجل قضى العقد الماضي من حياته وهو يتهرب من المسؤولية الشخصية ومن الخضوع للمحاسبة، وعلى وجه التأكيد، من المقاضاة أمام المحاكم الدولية بشأن القرارات التي اتخذها وهو على رأس عمله رئيساً للوزراء.
 
ولكن بلير بشخصية المتهم حتى عام 2013 خرج علينا في مقال الأمس بشخصية مختلفة تماماً، هي شخصية بلير الخبير في شؤون الشرق الأوسط، الذي يعتبر أنه بوصفه شخصاً قضى وقتاً طويلاً في المنطقة، ونظراً لأنه درس حراكها بشكل جيد، فإن بإمكانه أن يكشف لنا عن أن العدو الحقيقي للعالم هو التطرف الإسلامي. كتب يقول: “الجهاديون لن يتركونا وشأننا أبداً، ولذا لا يجوز أن تكون اللامبالاة نهجاً سياسياً. إننا بصدد نضال قد يمتد لأجيال ضد الإسلام المتطرف، وإذا ما كسبنا المعركة في الشرق الأوسط، فإننا سنكون قد كسبناها في بقية أنحاء العالم".
 
يبدو إذن أن عقداً كاملاً من الحرب في الشرق الأوسط بعد غزو العراق لم يكن كاف، وما نحن بحاجة إليه هو صراع على مدى جيل كامل، أي لخمسة وعشرين عاماً أخرى.
 
قدم بلير قائمة من الحجج المناقضة للحقيقة في محاولة لإثبات نظريته بأن السبب لا يسبق الأثر، وبأن الربط بين قراره غزو العراق وما يدور فيه الآن من حرب أهلية أمر مستهجن. يجزم بلير بأن صدام حسين لو كان ما يزال في السلطة لتعامل مع الربيع العربي بنفس الطريقة التي تعامل معه بها بشار الأسد، ويقول بأن وجود زعيم سني في العراق يقاتل من أجل البقاء في الحكم في مواجهة ثورة شيعية ووجود زعيم شيعي يفعل نفس الشيء ضد ثورة سنية في سوريا كان سيفضي إلى حرب طائفية إقليمية شاملة.
 
دعونا نمضي في التأمل في تحليله المناقض للحقيقة والواقع. يتمخض الربيع العربي عن ثورات مضادة يقودها العسكر الذين يقومون بدورهم بحظر المعارضين السياسيين لهم رغم أنهم كانوا قد انتخبوا ديمقراطياً، ثم يصنفونهم ضمن المنظمات الإرهابية. بلير يؤيد مثل هؤلاء العساكر المستبدين، مثلما هو حاله مع الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، لأنهم بطبيعة الحال، مثله، يعلنون الحرب على الحركات الإسلامية. دعونا نفترض الآن أن صدام حسين مايزال في السلطة وبأنه يواجه تمرداً شيعياً مدعوماً من قبل إيران، أفلن يغري ذلك بلير بدعم صدام ضد نظام إسلامي متطرف، لعله الأكثر أصولية في المنطقة، والمصدر لكل ما له علاقة بالإرهاب كما يحلو لأصدقاء بلير في الحكومة الإسرائيلية الحالية وصفه؟
 
يقول بلير إن علينا “أن نحرر أنفسنا من فكرة أننا نحن الذين تسببنا في كل ذلك”. لا نحن لسنا ملزمين بتحرير أنفسنا من أي فكرة من هذا النوع، بل أنت من يتوجب عليه ذلك.
 
كان للحرب الطائفية في العراق نقطة انطلاق محددة، ومحددة جداً. بالطبع، كان هناك إرث تاريخي يمتد لمئات السنين وكان هناك العامل الديني، إلا أن الشرارة التي أشعلت هذه الحرب في عام 2003 لم تأت عفوية أو مصادفة، وإنما تشكلت إثر وصول أشخاص مثل الكولونيل جيمز ستيل إلى العراق، ذلك المحارب القديم في صفوف القوات الخاصة الأمريكية التي خاضت ما يعرف بالحروب القذرة في أمريكا الوسطى والذي كلفه دونالد رامسفيلد بإنشاء قوات شيعية موازية للقوات النظامية مهمتها إخماد التمرد السني. تم ذلك بفضل غطاء قانوني تمثل في رفع البنتاغون الحظر عن انضمام المليشيات الشيعية إلى قوات الأمن، مما سمح بتشكيل قوات شرطة خاصة من بين عناصر كتائب بدر. المستشارون الأمريكان الذين كانوا يعملون تحت إمرة رامسفيلد ودافيد بيتريوس والذين كانوا يحظون بدعم بملايين الدولارات تواطأوا فيما كانت ترتكبه قوات الشرطة الخاصة من انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان في مراكز الاعتقال التابعة لها.
 
سرعان ما انقلبت هذه العملية التي كان يطلق عليها لقب “مواجهة التمرد” رأساً على عقب حينما قرر بيتريوس تجنيد المتمردين السنة لمحاربة القاعدة من خلال تمويل الصحوات. إلا أن الاستراتيجية الأصلية المتمثلة باستخدام المليشيات الشيعية لمحاربة المليشيات السنية بهدف تجنيب القوات الأمريكية الهجمات التي كانت تشن عليها كانت أحد الأفكار الذكية للبنتاغون.
 
فاقم نوري المالكي من الأزمة حينما أقصى من المعادلة السياسية كافة قطاعات المجتمع السني، ولكن يمكن القول بأن كل ما فعله هو أنه استأنف، أو وسع نطاق، السياسات الطائفية ذاتها التي صاغتها قوات الاحتلال.
 
على طوني بلير أن يعترف بأن حرب العراق لم تتوقف حينما سحب باراك أوباما آخر وحدة مقاتلة من قواته من البلاد، بل الحرب ماتزال مستعرة إلى الآن. ليس العراق مجرد تركة خلفتها حكومته، بل هو أكثر من ذلك. إنه عبء ضخم ينوء به الضمير.

(ذي هافنغتون بوست)