مقالات مختارة

أساطير أخرى هوت

1300x600
كتب فهمي هويدي: أوباما باع الإخوان بعد انتخاب السيسي رئيسا لمصر. هذه هي الرسالة التي يتلقاها القارئ من العنوان الذى نشرته صحيفة «الشروق» على صدر صفحتها الأولى يوم 5/6، وكان كالتالي: أوباما يطوي صفحة الإخوان ويمد يده للسيسي. وقد استقى المحرر العنوان من البيان الذي أصدره البيت الأبيض في اليوم السابق، وذكر أن واشنطن تتطلع للعمل مع السيسي لتعزيز الشراكة الاستراتيجية والمصالح العديدة بين البلدين.

إعلان البيت الأبيض يعكس موقفا مغايرا لما عبرت عنه وسائل الإعلام المصرية طوال الأشهر العشرة الماضية، من الترويج لفكرة انحياز الإدارة الأمريكية للإخوان، بل والتلميح بين الحين والآخر إلى اشتراك المخابرات المركزية الأمريكية فى التواطؤ مع دول أخرى لزعزعة الاستقرار فى مصر وإعادة الدكتور مرسى إلى السلطة، وقد ذهب البعض إلى أبعد فى تلك التلميحات إلى الحد الذى دعا أحدهم إلى القول بأن المخابرات الأمريكية ليست بعيدة عن محاولة اغتيال السيسى، بل قيل إن شقيق أوباما على علاقة بالتنظيم الدولى للإخوان.

بيان البيت الأبيض الأخير يشكك فى صحة المعلومات التى جرى تسويقها طوال الأشهر العشرة الماضية بشأن حقيقة موقف واشنطن. وأغلب الظن أن تلك الخلفية كانت حاضرة لدى محرر «الشروق» الذى ذكر فى تقديمه لبيان البيت الأبيض أن الرئيس الأمريكى طوى صفحة موقفه من جماعة الإخوان بصورة «مؤقتة»، بما يعنى انه قابل للعودة إلى «أصله» فى وقت لاحق. وهو ما اعتبرته نوعا من التبسيط الذى يشكل إحدى سمات الأداء الإعلامى المصرى باختلاف منابره. وهو الذى لا يحتمل الخلاف ولا يقبل به. ويبدى استعدادا متسرعا لتحويل الخلاف إلى خصومة، وتطوير الخصومة بحيث تتحول فى الخطاب الإعلامى إلى مكايدة ومؤامرة. الأمر الذى يفتعل معركة وهمية من لا شىء.

ليست لدى ثقة فى السياسة الأمريكية التى تحكمها عوامل داخلية معقدة. وما أفهمه أن الإدارة الأمريكية كان لديها تقييم مخالف لما حدث يوم 3 يوليو، حيث اعتبرت ما جرى انقلابا على سلطة منتخبة. وبمقتضى القوانين الأمريكية فإن ذلك يفرض قيودا على السلطة تحول دون تعاونها مع الوضع المستجد. ومن ثم فإن موقفها آنذاك كان التزاما بالقانون بأكثر منه انحيازا للإخوان. ثم حين انتخب المشير السيسى رئيسا، فإنها اعتبرت انه جاء بالانتخاب الأمر الذى رفع عنها الحرج وجعلها تتحلل من الالتزام القانونى، الأمر الذى فتح الباب لإعادة التعاون بين البلدين إلى وضعه الطبيعى. هذه القراءة تسوغ لنا ان نقول ان الموقف الأمريكى لم يطرأ عليه تحول أو تغيير. فهو لم يطو صفحة ولم يبدأ صفحة جديدة، ولكنه ظل ملتزما بالقانون فى الحالتين، ولكننا نحن الذين استقبحناه حين اختلف معنا ثم امتدحناه حين أيدنا.

لدينا أساطير عدة من ذلك القبيل صنفت المخالفين فى خانة الأعداء. وما يصدر فى مصر عن الإعلام البريطانى نموذج آخر. ومازلت احتفظ بقصاصة لإحدى الصحف المصرية التى صدرت فى أول أبريل الماضى، حين بثت هيئة الإذاعة البريطانية (بى بى سى) بعض الأخبار المحجوبة فى مصر، المتعلقة بضحايا المظاهرات. فما كان من الصحيفة المذكورة إلا أن نشرت تعليقا قالت فيه إن ذلك من أصداء عداء الإذاعة البريطانية التاريخى لمصر منذ حرب السويس عام 56، واعتبرت انها «ضحت بكل القيم والأعراف والتقاليد والأخلاق المهنية واستعادت ذلك العداء المكنون، وكشفت عن وجهها القبيح بالانحياز إلى الإخوان»... إلخ.

من المفارقات التى ترد فى هذا السياق ان إعلامنا روج حينا من الدهر لأسطورة الدعم الخليجى للجماعات الإسلامية والسلفيين فى مصر، ولعلنا نذكر كيف أن صحفنا أبرزت أكثر من مرة صورة العلم السعودى الذى رفعه أحدهم فى واحدة من المظاهرات. واحتل الخبر ومعه الصورة مكانة على الصفحات الأولى محملا بالإيحاءات التى توصل الرسالة. ولكن التجربة أثبتت ان السعودية بالذات ومعها الإمارات تقفان على طول الخط فى الموقف المعاكس لتلك الجماعات، الداعى إلى اقصائها وشطبها من الحياة السياسية وليس مساندتها أو تمكينها. ليس ذلك فحسب، وانما ما نشاهده الآن يدل على ان الدولتين تساندان بقوة المعسكر الذى يقف فيه أغلب رموز العلمانيين واللبيراليين واليساريين وما يسمى بالقوى المدنية.

لا تقف الأساطير عند ذلك الحد، لأن لغة الخطاب فى الداخل مسكونة بالعديد من المفارقات الأخرى. إذ حين صوتت الأغلبية لصالح النظام السابق فإن ذلك كان يفسر انه استسلام للإغراء والرشاوى وعبوات الزيت والسكر التى اشترت الأصوات. وحين تقاعس كثيرون عن التصويت فى اليوم الأول للانتخابات الرئاسية الأخيرة، فإن الشعب المصرى وصف بالجهل والتخلف ونكران الجميل. أما حين استجاب لنداء التفويض وخرج البعض يرددون الأناشيد ويعبرون عن انفعالهم بالرقص. وتم كل ذلك دون توزيع قنانى الزيت أو عبوات السكر، فإنه صار شعبا عظيما وأصيلا قادرا على صنع المعجزات وابهار العالم وصناعة التاريخ.

انها ليست فقط مشكلة إعلام يطوع الأخبار لتصبح فى خدمة السياسة، لأن المشكلة الحقيقية تتمثل فى أزمة الديمقراطية التى غيبت ثقافة الاختلاف وأهدرت الرأى الآخر حتى ناصبته العداء. لكن هناك وجها آخر للمشكلة يثيره السؤال التالى: إذا كانت المصادفة قد كشفت لنا عن حقيقة بعض الأساطير السياسية الرائجة، فكيف يتسنى للمجتمع أن يقوم بعملية الفرز بين ما هو أسطورة متخيلة أو موهومة وبين ما هو حقيقة صافية لم تخضع للابتسار أو التزوير؟

(الشروق المصرية)