كتاب عربي 21

دولة البغدادي في العراق والشام لم تعد افتراضية

1300x600
عندما أعلن أبو بكر البغدادي في التاسع من نيسان/ إبريل 2013 عن تأسيس "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ظن كثيرون أن البغدادي دخل في طور من نوبات الهوس وأصيب بحالة من النرجسية وتلبس بضلالات وأوهام من الجنون، فلم يكن يتصور الخبراء الرغبويون بأن الإعلان عن ميلاد الدولة يتعدى العالم الافتراضي ويدخل في حيز العالم الواقعي، لكن البغدادي كان متيقنا أن الشروط والظروف والأسباب الموضوعية باتت ناجزة لقيام دولته بفضل السياسات الهوياتية الطائفية التي تبناها المالكي في العراق والأسد في سوريا برعاية الولي الفقيه في إيران.

تسيطر  "داعش" اليوم على مساحات شاسعة غرب العراق وخصوصا محافظة الأنبار وشرق سوريا خصوصا محافظة الرقة التي أصبحت عاصمة دولة البغدادي، ولم يعد التنظيم يحفل برضا القاعدة والجماعات الإسلامية المسلحة، وهو يتعامل معها بالقوة المميته باعتبارها جماعات مرتدة وصحوات، وعلى الرغم من قوة تنظيم "داعش" الذاتية، إلا أن قوتها الحقيقية موضوعية، فالمشاكل السياسية والاقتصادية في العراق وسوريا توفر بيئات حاضنة مثالية للتنظيم، فالطبيعة السلطوية والطائفية لنظامي الأسد والمالكي المسندة من إيران وانحراف طبائع الصراع إلى شكل هوياتي طائفي بين السنة والشيعة وفر بيئة مثالية خصبة للتعبئة، وجاذبية إيديولوجية للتنظيم.

خلال الأيام الماضية برهن تنظيم "داعش" على قدرته على استعادة مكانته التي كان عليها عام 2006 عندما أعلن عن تأسيس "دولة العراق الإسلامية" في 15 تشرين الثاني/ أكتوبر 2006، والتخلي عن تسمية "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"  التي أعلن عنها بتاريخ  8 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، وقد تمكنت آنذاك الولايات المتحدة من طرد التنظيم وتحجيم نفوذه عبر استراتيجية "التدفق" التي نفذها بترايوس من خلال زيادة عدد القوات الأمريكية والتنسيق مع "الصحوات" ومجالس "الإسناد" المحلية. 

ويبدو أن انسحاب القوات الأمريكية عام 2011 من العراق الذي تزامن مع بدء فعاليات حركات الاحتجاج الثوري في العالم العربي ودخول آفاقه منتصف آذار/ مارس إلى سوريا ثم وصوله إلى العراق نهاية 2012 عمل على بعث الحياة في جسد تنظيم القاعدة في العراق وتكوين سلالة جديدة أكثر عنفا وأشد فتكا، وقد استثمرت دولة البغدادي الظروف الجديدة التي شهدتها المحافظات السنية الست المنتفضة وهي الموصل والأنبار وديالى وصلاح الدين وأجزاء عدة من بغداد وكركوك.

 وكان مسلحون ينتمون إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"، قد تمكنوا صباح السبت 7 حزيران/ يونيو من اقتحام حرم جامعة الأنبار وسط مدينة الرمادي واحتجزوا الطلبة والأساتذة الذين الذبن يقدر عددهم بنحو 2500 شخص، كما تمكنوا من قتل 59 شرطيا ومسلحا في اشتباكات في مدينة الموصل شمال البلاد، وهذا ثالث هجوم واسع النطاق يشنه مسلحوا الدولة الاسلامية في العراق والشام خلال الأيام الثلاثة الماضية، بعد هجوم سامراء والموصل.

لم يكن ممكنا لدولة البغدادي أن تتمدد وتتحول من العالم الافترضي إلى الواقعي إلا عبر سياسات المالكبي الطائفية الفجة فعقب اقتحام قوات المالكي خيم المعتصمين على الطريق الدولي الرابط بين بغداد وعمان ودمشق، واعتقال النائب أحمد العلواني، تفجرت الأوضاع في الأنبار وسيطرت قوات العشائر على الفلوجة والرمادي، وتشكلت مجالس عسكرية مكونة من عناصر عشائرية مسلحة وآخرون من بقايا جماعات المقاومة العراقية أمثال: "الجيش الاسلامي"، و"حماس العراق"، و"كتائب ثورة العشرين"، و"جيش المجاهدين"، و"أنصار السنّة"، وبعض أفراد الجيش العراقي السابق، إلا أن رواية المالكي أصرت على أنها تواجه تنظيم القاعدة، وبأن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام هو من يسيطر وحده على الأنبار، وبأنه يحارب الأرهاب الممتد من العراق إلى سوريا، ويبدوا أن سياسات المالكي دفعت فعليا القوى المسلحة السنية على عقد تحالفات موضوعية مع دولة البغدادي في مواجهة العدو المشترك ممثلا بالمالكي، الأمر الذي يفسر سرعة انتشار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام في سائر المحافظات السنية.

عندما أعلن وزير العدل العراقي حسن الشمري بأن هروب مئات المعتقلين من سجني أبو غريب والتاجي في 29 تموز/ يولو 2013 ومعظمهم ينتمون إلى "القاعدة" كان مدبراً بمعرفة مسؤولين عراقيين كبار، وبأن الهدف كان اقناع واشنطن بالتخلي عن خططها لضرب نظام الرئيس السوري بشار الأسد، عبر تعظيم دور القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، كان يشير إلى نصف الحقيقة، ذلك أن دولة البغدادي كانت قد دخلت نهاية مرحلة وبداية أخرى، فبحسب الناطق باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني فإن: غزوة "قهر الطواغيت"، هي آخر غزوة في خطة "هدم الأسوار"؛ إذ تم بفضل الله وحده تحريرُ ما يزيد عن ألف من أسرى المسلمين، من بينهم أكثر من خمسمئة من أسود المجاهدين، وبهذا  فإننا نعلن انتهاء مرحلة "هدم الأسوار" وبدء مرحلة جديدة أسميناها : "حصاد الأجناد".

لا جدال بأن دولة البغدادي باتت تتمتع بقوة كبيرة يشرية وعسكرية ومالية وإعلامية وتقنية، ولعل الاطلاع على الإصدار الأخير من سلسلة ""صليل الصوارم 4" بتاريخ 7 آيار/ مايو 2014 عن مؤسسة الفرقان وهي أحد أذرع تنظيم "داعش" الإعلامية تؤكد التحول الكبير في بنية التنظيم وقدراته الفائقة وتكتيكاته العنيفة وطبيعته الهوياتية واستراتيجيته المرعبة.

فعندما يصدر مجلس الأمن الدولي بيانا يدعم إجراءات المالكي القمعية في الأنبار بذريعة محاربة "المجموعات المسلحة"، وعندما تساند الولايات المتحدة سياساته الفجة وتعمد إلى تزويده بأسلحة نوعيّة كطائرات الاستطلاع وصواريخ هلفاير، وتتفاوض على تدريب قوات خاصة مشتركة، وتعمل على تأسيس قوعد لطائرات بدون طيار بحجة التصدي لتنظيم "القاعدة"، فأنت أمام مشهد سني يبحث عن هويته التي باتت مشتته ومفتته وقد يذهب بعضه إلى تأكيد انتماءه الهوياتي عن طريق دولة البغدادي في ظل غياب سند وممثل للهوية السنية في العالم العربي، الذي باتت أنظمته هشة وعاجزة في مقابل دولة إيرانية تؤكد على حماية وتمثيل أبناء هويتها الشيعية في عراق المالكي وسوريا الأسد.

المالكي كغيره من الديكتاتوريين العرب يدرك جيدا طبيعة النظام الدولي الجديد كبنية قوة بعيدا عن الرطانة البلاغية الأخلاقية، ومواثيق الكرامة الإنسانية المؤرشفة، ومنظومة الحقوق والعدالة المنسية، فالكلمة السحرية الأثيرة "الإرهاب" كفيلة بالخلاص من الاستحقاقات السياسية والمساءلات القانونية. وما يحدث في الأنبار يفضح فساد العملية السياسية في عراق ما بعد الاحتلال، ويكشف عن الخلل البنيوي المتعلق بـسياسات "الحرب على الإرهاب"، التي تتبنى مقاربة عسكرية أمنية تتعامل مع نتائج ومخرجات منظومات الفساد والاستبداد وغياب الشفافية والعدالة، ولا تلتفت إلى الأسباب والشروط والظروف الموضوعية المنتجة لظاهرة التطرف العنيف التي توصم بـ "الإرهاب"، ثم التعامل معها وفق مقاربة شمولية تكاملية تضمن المساواة وتحقق التنمية وترسخ العدالة، فسياسات الحرب على الإرهاب لا تقترب من فرانكشتاين لكنها تتصدى للوحش الذي خلقه. 

فما يحدث في الأنبار  من تنامي وتمدد دولة البغدادي نتيجة منطقية لعراق ما بعد الاحتلال، فالعملية السياسية الفاسدة التي يديرها المالكي، والتي وضع أسسها الاحتلال الأمريكي عام 2003، وعلى الرغم من انسحاب قواته عام 2011، لا تزال آثار الاحتلال فاعلة في توليد الأزمات والصراعات الطائفية، فسياسات الهوية هي الركن الأهم من العملية السياسية، والانقسام الهوياتي الإثني بين العرب والكرد والطائفي بين السنة والشيعة يتحكم في مسارات الدولة التي بات فيها المكون العربي السني مهمشا ومهملا ومعزولا ويعامل كأقلية، إذ لم تجلب محاولات العرب السنة الانخراط في العملية السياسية سوى مزيد من التهميش والشعور بالظلم والتمييز.

 لقد استثمرت دولة البغدادي في العراق والشام سياسات المالكي والأسد  الهوياتية الطائفية بكفاءة كبيرة، فقد استخدم المالكي كافة الوسائل الممكنة المغلفة بالقانون والشرعية لاستبعاد خصومه السياسيين، وفي ترسيخ سلطته الفردية من خلال توليه كافة الملفات الحيوية في الدولة، فهو بالإضافة لتوليه منصب رئاسة الوزراء يتولى المسؤولية عن وزارة الدفاع والداخلية والأمن الوطني، ويتحكم بتفسير وتأويل وتطبيق جملة من القوانين المفصلة على مقاسه بدءا بقانون الإرهاب الذي بات سيفا مصلتا يستخدمه للتخلص من معارضيه  وخصومه السياسيين، وتدعيم سلطته الدكتاتورية، وانتهاءا بقانون المساءلة والعدالة الذي حل مكان قانون اجتثاث البعث، ومن خلاله تم تهميش واستبعاد سياسيين بارزين من السنة بحجة وجود ارتباطات مزعمومة عليا بحزب البعث السابق، كما أن قوات المالكي تنتشر بشكل استفزازي في سائر الأحياء السنيّة في بغداد، وفي كافة المحافظات التي يقطنها السنة في الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وكركوك، وديالى.

عمليات التهميش والإقصاء الطائفي التي مارسها المالكي بعثت الحياة في تنظيم "داعش"، فقد بلغت سياساته الخرقاء  ذروتها مع بدء حركة احتجاجية سنيه سلمية نهاية عام 2012، والتي تعامل معها برعونة واسستخفاف باعتبارها تمردا يقوده "الصداميين والبعثيين والإرهابين"، كما لجأ المالكي إلى تكتيكات أكثر خطورة في التعامل مع الاحتجاجات السلمية، من خلال الادعاء بأن المتظاهرين ترعاهم تركيا ودول الخليج، والإصرار على أن بينهم إرهابيين ينتمون إلى حزب البعث السابق، أو أنهم مدفوعين بالعداء الطائفي، وقد عمل ذلك على تحوّل الطائفة الشيعية نحو قدر أكبر من الراديكالية، حيث يعتبر الكثير من أفرادها حالياً هذا التحدي للوضع الراهن تهديداً وجودياً،  الأمر الذي بلور قناعة لدى المحتجين بعدم جدوي النضال السلمي، وهو ما استثمرته دولة البغدادي بتوسيع دائرة التجنيد وتكثيف نطاق عملياتها المسلحة.

 لا أحد يسأل المالكي المنتشي بفوزه بانتخابات معروفة نتائجها سلفا وفق الاستقطاب الطائفي الذي عمل على صناعته، لماذا استعاد الفرع القاعدي في العراق رغم تمرده على تنظيم القاعدة المركزي بزعامة الظواهري، وبات ممثلا بالدولة الإسلاميىة في العراق والشام عافيته التي كان عليها قبل عام 2008، وهو يقوم  بتطوير أساليبه واستراتيجياته القتالية،  ولماذا زادت عملياته عن 30 هجوم يوميا في العراق، وهو يقوم بهجمات مركبة ومعقدة واسعة المدى كل 4 إلى 6 أسابيع، ولماذا أصبح التنظيم يسيطر على مساحات واسعة غرب العراق وشمال شرق سوريا، وباتت جهود التنظيم في تجنيد العراقيين سهلة وميسورة، كما ظهر ذلك جليا من خلال زيادة أعداد منفذي الهجمات الانتحارية، وانضمام بضعة آلاف من الجهاديين العرب والأجانب.

ما يحدث من توسع نفوذ دولة البغدادي في الأنبار أبعد من موضوع القاعدة رغم نفوذها وانتشارها وتطورها، ويقع في إطار اللعبة الاستراتيجية الكبرى التي تسعى إلى الحفاظ على المصالح الجيوسياسية من خلال توطيد العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها من دكتاتوريي المنطقة، وخصوصا عقب الصفقة بين إيران والولايات المتحدة والغرب حول الملف النووي، ومن ضمنها صفقة الكيماوي مع نظام الدكتاتور الأسد، وفي العراق مع ديكتاتورية المالكي، وبهذا يكتمل عقد الإتلاف الهوياتي الشيعي المتحد، وتصبح دولة البغدادي ملاذا وممثلا بائسا للشعوب التي تنتمي إلى الفضاء المذهبي السني الحزين الذي يتعرض للمحاصرة والتضييق والتهميش من طرف دكتاتوريه الداخليين قبل  أعدائه الخارجيين تحت وطئة سياسات "الحرب على الإرهاب" التي أصبحت وصمة خاصة بالسنة في طول العالم وعرضه.