كتاب عربي 21

نضارة الروح إذ تسمو على شحوب الجسد

1300x600
بجسم نحيل تآكل بين جدران زنزانة باردة، أطلَّ صحفي الجزيرة عبد الله الشامي المعتقل في سجون الانقلاب، ليبعث برسائله البليغة إلى فضاءات شاسعة؛ تجاوزت قدرة السجان على الحجب والحصار.

وبوجه شاحب ترك الإضراب عن الطعام علاماته السوداء عليه، تماسك الشاب العشريني أمام كاميرا "الموبايل" المهرّبة، ليؤكد انتصار إرادته، انتصارها على هراوة الجندي، وسوط الضابط، وسطوة الحاكم بأمر القوة الغاشمة.

تحدث الإعلامي المعتقل بلغة عربية وإنجليزية فصيحة؛ تتلعثم أمام بلاغتها ألسنة من يُفترض أنهم "زملاؤه" في المهنة، من أولئك الذين خرست ألسنتهم في الدفاع عن حقه في الحرية، وفي العمل الصحفي، وفي التنفس.. في وطن أضحى "الأوكسجين" فيه حلما تطارده سياط العسكر وفوهات بنادقهم الهوجاء.

بكلمات محدودة بعيدة عن السياسة، أستطاع الشامي أن يكثف معادلة السياسة الراهنة في مصر بعد الانقلاب بأرقام بالغة الوضوح: عشرات الآلاف من المعتقلين، 266 يوما من الاعتقال التعسفي، 106 أيام من الإضراب عن الطعام، وملايين العيون المعلقة بصمود الشاحبين في الزنازين.. مقابل مئات الآلاف من بنادق "خير الأجناد" التي أخطأت هدفها، وملايين الصامتين والشامتين والسجانين.. معادلة يقول التاريخ إنها تنتهي دائما في صالح الصامدين، أولئك الذين خلدتهم ذاكرة شعوبهم، سواءً خرجوا من سجنهم مظفرين، أم انتهوا أيقونات معلّقة على جدران حنونة لا تشبه جدران زنازين الطغاة الصلدة.

وإذا كان الفيديو المسرب المختصر لعبد الله الشامي قد سلط مزيدا من الضوء على قصته، إلا أنه يختصر أيضا قصة كل ضحايا الاعتقال التعسفي في هذا الوطن العربي "الممتد من البحر إلى البحر، سجون متلاصقة .. سجان يمسك سجانا"، كما قال شاعر الرفض العربي"مظفر النواب" في إحدى صرخاته في وجه الاستبداد العربي... قصة اولئك الذين يلجأون إلى "الجور" على أجسادهم بالإضراب، في سبيل الإبقاء على جذوة الصمود والرفض في مواجهة الذين "يجورون" على أوطان وشعوب بأكملها.

ولئن "حظي" عبد الله الشامي بلقطات مصورة لدقائق معدودة بحكم عمله الصحفي في مؤسسة كبيرة، فإن ملامح وجهه التي تغيرت من وقع الجوع والمرض، تشبه إلى حد مثير للدهشة ملامح معتقلين آخرين يخوضون معركة الإضراب، دون أن يحظوا بصورة مسربة عن صمودهم ومعاناتهم، سواء كانوا في سجون الاستبداد العربي، أم في سجون الاحتلال الإسرائيلي، إذ تختلط ملامح الوجوه العربية المغيبة وراء قضبان الوطن... وقضبان العدو، لتختلط بالتالي تفاصيل معركة التحرر من الأنظمة المستبدة الفاسدة مع تفاصيل معركة التحرر من الاحتلال الصهيوني.

وليس غريبا عندئذ، أن تتزامن- دون ترتيب!- "انتفاضة السجون" في مصر، مع "معركة الأمعاء الخاوية" التي يخوضها الأسرى الإداريون في سجون الاحتلال الإسرائيلي.. وليس غريبا عندئذ، أن يترافق جوع عبد الله الشامي وآخرين في سجون الانقلاب -الذي يبالغ كل يوم في إرسال رسائل التطمين لدولة الاحتلال- مع جوع الأسرى الفلسطينيين الذين يشكلون خط "الجوع" الأول ضد هذه الدولة.

وليس غريبا عندئذ، أن يعجز المرء عن التفريق بين وجه عبد الله الشامي، وبين وجوه مئة وعشرين أسيرا فلسطينيا إداريا يخوضون معركتهم مع سجاني الاحتلال الإسرائيلي.. وليس غريبا أيضا، أن تتهاوى الفوارق بين الوجوه الشاحبة النحيلة من "المضربين عن الذلة" هنا وهناك، إذ تسمو نضارة أرواحهم على "شحوب" الوجوه التي أنهكها الجوع، فتغدو ملامحهم في "روح" الباحثين عن الحرية واحدة.