ملفات وتقارير

"موسم الهجرة": حلب ضحية البراميل المتفجرة

صورة نشرتها هيومن رايتس ووتش تبين المواقع التي تعرضت للقصف بالبراميل المتفجرة في حلب بين تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 وشباط/ فبراير 2014

موجة ثانية من النزوح يشهدها القسم الشرقي من مدينة حلب، مع تشديد قوات النظام السوري قصفها العشوائي بالبراميل المتفجرة في ظل سعيها المحموم للتقدم داخل الأحياء التي يسيطر عليها الثوار.

وتحاول قوات النظام التقدم من ثلاثة محاور: من الشرق والجنوب الشرقي والشمال، وذلك بعدما تمكنت من استعادة بلدة السفيرة حيث بات طريق الإمدادات مفتوحا جنوبا من حماة ثم السيطرة على محيط مطار حلب قبل أن يتمكن الثوار من صد الهجوم ثم تحقيق تقدم في نقاط استراتيجية.

وكان قسم كبير من السكان قد هجروا بيوتهم مع بدء المعارك في المدينة في تموز/ يوليو 2012. وكثير منهم انتقلوا إلى تركيا، في حين فضل آخرون الانتقال إلى الريف. أما من آثر البقاء في بيته في مدينة حلب فإنه يسعى الآن لمغادرة المدينة.

وللمفارقة، فإن عائلتين ممن تحدثت إليهم "عربي21" ذكرتا أنهما فضلتا الانتقال إلى مناطق يسيطر عليها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) في ريف حلب الشرقي، حيث يسود اعتقاد بأنه هذه المناطق آمنة من القصف الجوي، حيث بدا أن النظام السوري يتجنب التعرض لها بالفعل، وهذا ينطبق أيضا على محافظة الرقة التي يسيطر عليها التنظيم بشكل كامل.

وقال أحد سكان المدينة ممن اضطر للنزوح إلى مدينة الباب التي تمثل أحد معاقل "داعش" الرئيسية في ريف حلب الشرقي، إن القصف لم يعد يقتصر على القصف الجوي العنيف والعشوائي، بل إن وصول قوات النظام السوري والميليشيات المتحالفة معه إلى تخوم المنطقة الصناعية في شيخ نجار جعل مناطق واسعة في شرق حلب مثل طريق الباب والصاخور ضمن مرمى المدفعية، كما سرت مخاوف من إمكانية دخول قوات النظام غلى هذه المناطق قبل أن يستعيد الثوار زمام المبادرة ويبدأون بتحقيق تقدم في شمال حلب (الليرمون) وفي غربي (جبل شويحنة) مع فشل قوات الأسد في التقدم رغم شدة القصف.

ويستمر القصف بالبراميل المتفجرة رغم مطالبة مجلس الأمن في قرار تبناه بالإجماع في 22 شباط/ فبراير الماضي إلى وضع حد "للاستخدام العشوائي عديم التمييز للأسلحة في المناطق المأهولة، بما في ذلك القصف المدفعي والجوي، مثل استخدام القنابل البرميلية". كما أبدى المجلس صراحة "نية اتخاذ خطوات أخرى في حالة عدم الالتزام بهذا القرار".

وذكرت هيومن رايتس ووتش أن ما لا يقل عن 340 موقعا في المناطق التي تخضع لسيطرة الثوار في حلب تعرضت للقصف بين مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 و20 شباط/ فبراير 2014.

وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "تبين الصور الجديدة الملتقطة بالأقمار الصناعية وشهادات الشهود مدى الوحشية التي أطلق لها العنان في أجزاء من حلب. لقد أدى استخدام القنابل البرميلية على أحياء سكنية إلى نتائج متوقعة، فقتل مئات المدنيين ودفع الآلاف إلى ترك منازلهم. وإذا استطاعت تلك الأسلحة عديمة التمييز أن تصيب هدفاً عسكرياً فلن يكون هذا إلا من قبيل الصدفة".

وقالت المنظمة إنها حصلت على صور للأقمار الصناعية تظهر حجم الدمار في المناطق التي تعرضت للقصف. كما "تُظهر أغلبية المواقع التي تم تحديدها أنماطاً تدميرية تتفق إلى حد بعيد مع تفجير القنابل البرميلية، وهي قنابل غير موجهة عالية الانفجارية، رخيصة الصنع ويتم إنتاجها محلياً، وتصنع عادة من براميل الوقود الكبيرة واسطوانات الغاز وخزانات المياه، التي تُعبّأ بالمواد المتفجرة وقطع المعدن الخردة لتعزيز تفتت الشظايا، ثم يلقى بها من المروحيات".

وأكدت هيومن رايتس ووتش أن "مواقع الدمار على نطاق واسع في كافة الأحياء الخاضعة للمعارضة تقريباً، مع تركز أغلبها في المناطق السكنية كثيفة البناء البعيدة عن خط المواجهة العسكرية. وفي معظم الحالات التي تحدثت هيومن رايتس ووتش بصددها مع شهود، قال الشهود إنه لم تكن هناك أهداف عسكرية قريبة، مما يعكس الطبيعة العشوائية عديمة التمييز للغارات".

وما يزيد من عمق المأساة عدم توفر وسائل الإسعاف والإنقاذ اللازمة لإخراج المصابين والضحايا من تحت الأنقاض، حيث تجري هذه العمليات في أغلب الأحيان بالأيد والوسائل البدائية. كما أن المدينة تعاني من نقص في المراكز الطبية بعد تعرض غالبيتها للدمار والقصف، كما فر كثير من الأطباء إلى الخارج. وتعتمد عمليات الإنقاذ والإسعاف في أغلب الأحيان على شبان تلقوا تدريبا محدودا.

والثلاثاء تلقى المجلس المحلي في حلب خمس آليات تستخدم في الإنقاذ، من وحدة تنسيق الدعم في الائتلاف الوطني السوري.

الرحيل:

وقال أحد سكان حي الصاخور في شرق حلب لـ"عربي21" إنه وعائلته رفضوا الخروج من منزلهم خلال الفترة الماضية، لكن برميلا سقط على مقربة من منزلهم تسبب في تحطم نوافذ المنزل دفع والده لاتخاذ قراره بالرحيل مع والدته وشقيقته الصغيرة إلى الريف. لكن هذا الناشط رفض المغادرة مع عائلته مفضلا البقاء في المدينة لمساعدة الثوار.

وفضل آخرون الانتقال إلى مناطق غرب حلب التي تخضع لسيطرة قوات الأسد. فخديجة فرت مع أطفالها الستة من منزله في حي السكري الذي يقع شرق المدينة عندما ضرب الحي ببرميل متفجر في أواخر كانون الثاني/ يناير. ومرت هذه الاسرة من خلال ما يطلق عليه "معبر الموت" وهو ممر يمتد 100 متر ويسيطر عليه القناصة بين نصفي حلب الشرقي والغربي في منطقة بستان القصر، على أمل أن تجد حياة أفضل في الجانب الآخر.

وقالت لوكالة رويترز: "عندما وصلنا إلى الجانب الذي تسيطر عليه الحكومة ضربنا الجنود بوحشية بعصاة". ولأنهم حرموا من الحصول على تصريح إقامة في الاراضي الخاضعة لسيطرة النظام، فهم ينامون في أي مكان يجدون فيه المأوى ويتنقلون كل بضعة أيام للهرب من قوات الامن.

وقال شرطي محلي في المدينة يدعى عمار: "قلنا لهم (السكان) أن كل قذيفة (يطلقونها) تساوي خمسة براميل متفجرة." ويرى عمار أن أي مدني يصاب من جراء استخدام هذا السلاح شديد التدمير يستحق ما يحدث له لتسامحه مع "الارهابيين" حسب وصفه. وأضاف: "لم يصدقونا وواصلوا إطلاق القذائف ولذلك رد الجيش بقصفهم باستخدام البراميل المتفجرة".

وأدى القصف إلى مقتل أكثر من 2400 مدني، بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء، منذ بدء حملة القصف بالبراميل المتفجرة في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، كما أصيب أكثر من 20 ألفا آخرين. كما دفع إلى نزوح آلاف الأشخاص عن ديارهم فر بعضهم إلى تركيا، بينما انتقل آخرون مثل خديجة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة في حلب حيث اضطروا إلى الإقامة في الشوارع وفي الحدائق والمدارس.

وقالت عبير، وهي باحثة تعمل في حلب للهيئة اليسوعية لخدمة اللاجئين، إن قوات الأسد تقصف حتى المناطق التي أصبحت تسيطر عليها الحكومة وكانت تسيطر عليها المعارضة في إطار ما وصفته بأنه "سياسة العقاب الجماعي".

وقالت لوكالة رويترز: "يواصلون ضرب الاحياء بالبراميل المتفجرة لمعاقبة سكانها لاحتضانهم مقاتلي المعارضة لدى دخولهم".

ويقيم بعض الذين اضطروا إلى الفرار في الشوارع وغالبا ما يكون ملجؤهم من الاقمشة المهلهلة المصنوعة من المشمع. ولجأ آخرون لمباني المدارس حيث يقيمون في فصول دراسية تكتظ بالعشرات حتى مع حضور التلاميذ للدراسة، مما يثير توترات اجتماعية في مدينة كانت تشتهر في وقت من الأوقات بتنوعها الديني والسياسي.

وقالت عبير: "حلب تعاني نوعا مروعا من التفتت الاجتماعي بسبب الكراهية بين سكانها وزيادة أعداد النازحين التي عمقت من هذا التفتت".

فر عبد الجبار مع أسرته من هجوم بالبراميل المتفجرة في كانون الثاني/ يناير لكن هذه الاسرة تعيش منذ ذلك الحين كالمنبوذين في حديقة عامة في الجانب الآخر من المدينة.

وقال عبد الجبار إن قوات الامن منعتهم من الإقامة مع أقاربهم في المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة. وأضاف: "السلطات تفرض علينا قيود إقامة كما لو كنا غرباء في بلدنا".

وفي المقابل، فإن آخرين ما زالو يرفضون مغادرة منازلهم رغم استمرار القصف. وذكر ناشط سوري يدعى غيث أنه مصمم على البقاء في حلب رغم تزايد العنف. وقال: "ما حدا بيحسن يبعد عن بلده ما حدا بيحسن يعيش برة بلده. أنا هون ولدت وهون بدي أتم (أظل) وهون بدي أموت. الناس نزحت الله يحميها ويوفقها لأن صار الوضع لا يحتمل أبدا. 20 برميل يوميا في مناطق مدينة حلب. البرميل بدمر أربع بنايات. الناس نزحت. أنا ليش أنزح.. الثورة لنا. تمينا (بقينا) هون عشان مظل مع الناس يلي ظلوا هون. فيه نسبة هون ظلت ما سافرت. فيه ناس ما عندها إمكانية تسافر. البلد بشبابها.. البلد برجالها.. مستحيل نترك البلد لبشار".

وقال رجل من أهالي حلب يدعى أنس بينما كان يسد نوافذ منزله بالإسمنت: "طبعا عمدنا لإعمار القرميد أو البلوك بفعل القصف اليومي على حلب بالطيران الحربي والبراميل المتفجرة. طبعا أأمن للنساء والأطفال بفعل الشظايا اليومية. حتى لو ما تعرض المبنى أو البناء للقصف بالبراميل المتفجرة أو الطيران الحربي الضغط الكبير يلي بييجي من مسافات بعيدة بخلي ما في بلور (زجاج النوافذ) أبدا بالبيت لذلك عشان ما يتشظوا الأولاد أو ينأذوا عمدنا لهذه الفكرة البسيطة".

ويشار إلى أنه سبق حركة النزوح الجديدة حركة أخرى تركزت بشكل خاص على الناشطين الذي تعرضوا لموجة اختطاف واعتداءات حينما كان تنظيم "داعش" متواجدا داخل المدينة، ما دفع بعشرات الإعلاميين على وجه الخصوص للفرار إلى تركيا.

وتمثل مدينة غازي عنتاب التركية القريبة من الحدود السورية الوجهة المفضلة لأهالي حلب الذين انتقلوا إلى تركيا. ويعش الآن نحو 200 ألف سوري في المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو مليوني نسمة.





(صورتان للأقمار الصناعية وزعتهما هيومن رايتس ووتش لإحدى المناطق في حي طريق الباب في حلب لتوضيح حجم الدمار في المنطقة بفعل القصف بالبراميل المتفجرة. الصورة الأولى التقطت في 31 تشرين الأول/ أكتوبر والثانية في السادس من شباط/ فبراير )