كتاب عربي 21

عُرف الفائز قبل أن يُعرف المرشحون

1300x600
لم يحدث أن كانت هناك انتخابات بهذا المستوى من الغرابة في العالم منذ عقود، لكن مصر باتت تتميز بقدر من الإدهاش الذي لا يتوفر في أي مكان من العالم، بخاصة منذ ثورة 25 يناير التي فجّرت فيها قدرا من التناقضات لم يعرف في تاريخها كله.

في مصر، نعرف تماما المرشح الفائز في الانتخابات حتى قبل أن يرشح نفسه، وما نستند إليه هو التحليل السياسي، فضلا عن الأحلام (أضيف إلى ذلك ترشيح بوتين للرئيس قبل أن يرشح نفسه).

وللتذكير، فقد قلنا يوم خطاب التفويض الشهير الذي طالب من خلاله السيسي بنزول الناس إلى الشوارع كي يمنحوه "تفويضا بمواجهة الإرهاب المحتمل"، قلنا إن ذلك هو إعلان ترشح للرئاسة، وكتبت في اليوم التالي مقالا بعنوان "السيسي رئيسا". لكن أحلام الرجل التي أعلن عنها في حواره مع رئيس تحرير المصري اليوم، لم تترك مجالا للشك في أنه سيكون الرئيس القادم.

السيسي بدوره يمارس قدرا كبيرا من الدلال على الشعب المصري، فهو يصر على رفض الإعلان عن نفسه مرشحا حتى يتأكد من أن الجميع يتوسلون إليه كي يفعل، ومن أجل أن تكتمل استمارات الترشيح حتى تتجاوز الملايين الثلاثين التي قالوا إنها خرجت يوم 30 يونيو، هي التي استعانوا بخبرات مخرج سينمائي كي يتمكن من الإيحاء بأن مليون أو أكثر في ميدان التحرير، ومثل ذلك الرقم في المناطق الأخرى يمثل ثورة شعبية.

لا يماري في أن ما جرى في 30 يونيو كان انقلابا سوى حاقد أو جاهل، لأن من يترك خمس جولات انتخابية، ويقيس على حشد فلولي طائفي ليوم واحد لم يتجاوز 2 مليون في طول البلاد وعرضها لا يمكن أن يكون منصفا بحال.

يذكرنا ما يجري في مصر بالآية القرآنية "فاستخف قومه فأطاعوه"، إذ يمكن أن تبلغ الخفة بقطاع من الشعب حد تصديق حملة التأليه التي تنفذ لصالح شخص ما حتى تحوّله إلى بطل عظيم، مع أنه لم يخض معركة واحدة في حياته، اللهم سوى العدوان على معتصمين سلميين وقتل أكثر من ألف منهم في يوم واحد، وأكثر من ذلك في محطات أخرى، ولا شيء في حياته غير خيانة رئيسه والانقلاب عليه بدعم قوىً داخلية وخارجية.

تبدو انتخابات الرئاسة في مصر كما لو كانت استفتاءً بنعم على مرشح يعلم الجميع أنه الفائز كما قال أبو الفتوح الذي آثر النأي بنفسه عن المعركة، لاسيما أن فرصته معدومة، حتى لو لم يترشح السيسي (ألم يقل عنه الأخير في التسريب إياه إنه لا زال إخوانيا؟!). أما سامي عنان، فترشيحه إذا أصرّ عليه، لن يعدو أن يمنح مصداقية للانتخابات لا أكثر.

المرشح الآخر الذي لا زال يناور هو حمدين صباحي الذي أعلن قراره بالترشح، لكنه أردف بالقول إن له شركاء ينبغي له أن يتشاور معهم، وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه، وهو ألم يكن أولى به أن يتشاور مع شركائه قبل إعلان قراره؟!

الجواب أنه لن يترشح كما يبدو، والسبب يتمثل في إدراكه لحقيقة أن المرتبة التي حازها في انتخابات 2012 بحملة انتخابية كبيرة موّلتها إيران، لن تتكرر هذه المرة بأي حال، ما يعني أن سيخسر تلك المرتبة المتقدمة نسبيا (حل ثالثا في الجولة الأولى) ستختفي لصالح نتيجة بائسة، فيما يعلم أنه لو ترشح قديس في مواجهة السيسي، فلن ينجح؛ ليس فقط بسبب زفة تتويجه كمنقذ للأمة، بل أيضا لأن التزوير سيفعل فعله في حال شعر القوم بتهديد لنسبته (وليس لنجاحه)، لاسيما أنهم لن يقبلوا بفوزه بأقل من ثلاثة أرباع الأصوات من الجولة الأولى.

من هنا، سيفضل صباحي على الأرجح إعلان التنازل لصالح السيسي "من أجل إنقاذ مصر"، ويحافظ على المرتبة السابقة في سيرته الذاتية، وذلك كخيار أفضل من شطبها لصالح نتيجة بائسة، فضلا عن حرمان نفسه من مزايا الانسحاب عند فريق العسكر، بخاصة في الجولة التالية ممثلة في انتخابات مجلس الشعب التي ربما أمل في أن يحصل تياره خلالها على نسبة معقولة، هو الذي لم يحصل على شيء يذكر في انتخابات 2012، ولولا نزول حزبه ضمن تحالف الإخوان لما دخل المجلس أصلا. ولا شك أن موقفه سيتغير إذا رأى القوم أن ثمة حاجة لبقائه في السباق لمنح الانتخابات شيئا من المصداقية.

ما يعنينا هنا في هذه المعالجة هو أن حملة التأليه التي تمتع بها السيسي سيكون لها جانب آخر لم ينتبه إليه كثيرون، ممثلا في أن حجم التوقعات منه ستكون كبيرة جدا، فيما ستكون النتيجة أنه لن يقدم الكثير، سواءً على صعيد الاقتصاد وهو الأهم، وحيث سيتوقف سيل الدعم بعد استقرار الحكم، فيما سيستعيد اللصوص الذي سرقوا البلاد أيام مبارك مجدهم، وثانيا على صعيد الأسباب التي أدت إلى ثورة يناير وفي مقدمتها بوليسية الدولة التي ستتعزز على نحو أسوأ بكثير من أيام مبارك. 

كل ذلك سيشرع في إنهاء سكرة السكارى بلوثة السيسي، وستبدأ القوى الحية في الشارع بالتحرك من جديد من أجل تشكيل جبهة عنوانها رفض وصاية العسكر على الحياة السياسية، ورفض الدولة الأمنية، وفي الآن نفسه رفض إعادة الفاسدين إلى واجهة الحكم، لاسيما أن كثيرا منهم سيعودون نوابا في مجلس الشعب بسطوة مالهم، وبمساعدة قانون انتخاب سيرجّح الدوائر الفردية على القائمة النسبية، وربما بشيء من التزوير إذا لزم الأمر.

ربما طالت هذه الرحلة، لكن نتيجتها محسومة، فالشعب الذي فجّر ثورة رائعة وذاق طعم الحرية لن يقبل العيش في ظل منظومة الفساد والاستبداد من جديد.