مقالات مختارة

دولة على عتبة الفشل

1300x600
من المؤسف حقا أن نتحدث عن بلدنا الحبيبة وهى على عتبة أن تعد من الدول الفاشلة، ومن العجيب أن يحدث ذلك رغم مرور ثلاث سنوات على واحدة من الثورات الكبرى التي وقعت في الخامس والعشرين من يناير، ذلك أن الثورات تعد إيذانا ببناء دولة جديدة على أسس جديدة وعلى قاعدة تعاقد مجتمعي سياسي جديد، فماذا حدث بالضبط حتى يمكن أن نعطي وصفا يتعلق بفشل الدولة المصرية؛ رؤية، وسياسات، ومسارات؟، عدة مؤشرات شديدة الخطورة في هذا السياق:

أول هذه المؤشرات ما يقع في دائرة الاستقطاب والانقسام وصناعة الكراهية بما يشكِّل مقدمات خطيرة لاحتراب أهلي وتهديد السلم المجتمعي، بل نستطيع أن نقول وبلا مواربة أن تفكيكا مجتمعيا بدأ يلوح في الأفق خاصة لشبكة العلاقات الاجتماعية التي تشكل في حقيقتها أواصر مجتمع وتماسك الجماعة الوطنية وقدراتها على أن تشكل تيارا أساسيا حاميا وحافظا لقيمها التأسيسية ومبادئها الكلية وقدراتها النظامية والتنموية، ومن ثم يبدو هذا المؤشر من الخطورة بمكان بحيث يشير إلى فشل الدولة في استثمار إمكاناتها الحقيقية وعلى رأسها الإمكانات البشرية فتهدرها إهدارا، وتفكك كل ما من شأنه أن يعطي لهذه الجماعة الوطنية معاني الفعل الحقيقي والتفاعل الطبيعي والفاعلية المثمرة.

أما المؤشر الثاني الذي يدل على إرهاصات ذلك الفشل فيتعلق بالحالة الانقلابية التي تشكل إفشالا حقيقيا لمسار ديمقراطي، وفى إطار برزت قوى في المجتمع والدولة تتواطأ في مصالحها وتحالفاتها الاجتماعية لتحاول أن تحمي هذه المصالح على حساب مكونات الدولة وبالخصم من إمكانات نهوض المجتمع، كعملية شاملة تشمل السياسي والمجتمعي والثقافي، هذا المؤشر إنما يتمثل في سياسات وقرارات خطيرة تصب كلها في استعادة الدولة البوليسية القمعية والدولة العسكرية الفاشية؛ بحيث تشكل هذه السياسات وما يترتب عليها من اعتقالات عشوائية واستدعاء النيابة والقضاء إلى ساحات السياسة من أقرب طريق وإصدار القوانين التي تهدم الحقوق ولا تنظمها، فللأسف الشديد إنهم يتخذون من ذريعة التنظيم ساحة لهدم الحقوق ونقض أصلها رغم أن «تنظيم الحق ركن فيه لا ينقضه ولا ينفيه».

المؤشر الثالث في هذا المقام إنما يشير إلى الحالة الاقتصادية التي تسير من تدهور إلى تدهور رغم الحقن المالي من دول الخليج الذي لا يصلح بأي حال لتحقيق تحريك اقتصادي حقيقي وحالة اقتصادية تنموية تشكل إضافة لرصيد الاقتصاد المعاشي وعمليات الاستثمار، فضلا عن أنها لا تمس معاش الناس بالقدر الذي يحرك أمل الناس في تحصيل احتياجاتهم ومواجهة كل ما يتعلق بتحديات معاشهم، هذا البعد الاقتصادي الذي يشكل «الرجل العادي» أهم ركن فيه، هو الفيصل الذي يمكن أن يحقق شعورا بالرضا من جانب فئات مهضومة من هذا الشعب تجد أن تحصيل لقمة عيشها أصبح أمرا يشبه المستحيل.
 
إن مؤشرات الأمن الإنساني بالمفهوم الشامل إنما تجابه خللا خطيرا ليس فقط في الرؤية ولكن كذلك في السياسات التي تحدث على الأرض؛ فمن المهم أن نؤكد أن مفهوم الأمن القومي صار يتلون بألوان كثيرة وفق المصالح الأنانية لقوى سياسية ومجتمعية في الدولة , وكذلك فإن الخلل قد طال تلك الرؤية للإنسان والتي استهانت بهذه الطاقات الإنسانية حينما استباحت حرمة الدماء وكذلك حاولت أن تصنع كراهية لفصيل بعينه وفي إطار عملية كبرى لصناعة الكراهية وزراعة روح الانتقام، وهو أمر شديد الخطورة على الأمن الإنساني بما يحمله من تفجير للأمور التي تتعلق بكرامة الإنسان ومعاشه وحريته وكذلك نيل نصيبه الذي يحقق مسارات العدالة الاجتماعية، وأخطر من ذلك أن تظل المسائل التي تتعلق بالفقر والتهميش والعشوائيات مهدرة لحساب الأمن السياسي، فيهدر كل مسارات الأمن الاجتماعي بما يؤكد على اتساع مساحات الفقر والتهميش داخل المجتمع، ومن المهم كذلك أن نشير إلى الفجوات الخطيرة داخل منظومة الأمن الثقافي حينما نجد محاولة التعرض لثوابت ثقافية في إطار أقلية تقوم على تثبيت سلطتها ومصادرة هذه الرؤى الكلية والثوابت الأساسية التي تشكل صميم ذاكرة هذا المجتمع الحضارية التي لا يجوز المساس بها أو الاستخفاف في التعامل معها.

هذا المربع الذي يشكل في حقيقة أمره ذلك «السير بخطى سريعة» إلى عتبة الدولة الفاشلة هو أخطر ما يكون على مستقبل هذا الوطن ومستقبل هذه الثورة التي حملت آمالا كبيرة خاصة فيما يتعلق بمسارات صناعة المستقبل، والأمر الخطير في هذا هو «التكلفة المركبة» التي لا يجب النظر إليها في إطار التكلفة الاقتصادية فحسب ولكن أكثر من ذلك وأخطر أن تمتد هذه التكلفة إلى دائرة السياسي والإمكانات التي تتعلق بتحقيق توافق حقيقي وتأسيس عقد مجتمعي وسياسي جديد، ذلك أن العائد الذي يتعلق بعملية الاستقطاب لا يكون إلا سلبيا ليس فقط في تخريب العملية السياسية ولكن في تقويض مستقبل مصر السياسي وكل ما يتعلق ببناء المؤسسات والعلاقات فيما بينها والقدرة على بناء مجتمع ديمقراطي وما يتطلبه من استحقاقات انتخابية.
 
ومن المؤسف حقا أن يترافق مع ذلك كله حملات الكراهية الإعلامية وبناء ثقافة التنافي والاستبعاد والاستئصال وروح الانتقام والثأر فضلا عن زراعة مزيد من مساحات الغضب في كيان المجتمع وأرجائه، إن الخروج من دائرة الفشل والدخول على طريق الفاعلية في بناء الدولة يحتاج بحق للتعامل مع هذا المربع بالتفكير الاستراتيجي والفاعلية الحقيقية وبدون هذا العمل الذي يؤسس بنية تحتية توافقية مجتمعية، فإن الفشل وفقا للسنن المرعية هو جزاء هذا المجتمع، وكذا الدولة التي لا تقوم على قاعدة من الرشد والعدل والفاعلية.