مقالات مختارة

الحنين للزعماء

1300x600
يتصادف هذه الأيام أن نرى كثيرين يحنون إلى الماضى، يحنون بشكل خاص إلى زعماء حكموا ورحلوا. يعكس هذا الحنين نشر عدد غير عادى من الكتب والمقالات التى تعيد إلى الذاكرة سيرة حياة زعيم مثل الجنرال فرانكو وتجربته فى حكم إسبانيا، وروايات من مسيرة ياسر عرفات مع الاهتمام، وإن لوقت قصير جدا، بأصداء بيان السيدة سهى عرفات عن ظروف موته، وكيف أن التحاليل الطبية السويسرية اثبتت أنه ربما مات مقتولا بالسم. كذلك حظيت هذا الأسبوع الذكرى الخمسين لوفاة جون كينيدى بتغطية إعلامية وسياسية لافتة. عاد المعلقون يكتبون عن شخصية كينيدى الدافئة ومغامراته العاطفية المثيرة وزوجته بنت الأمراء. كانت جاكلين إلى جانبه فى السيارة المفتوحة عندما أطلق لى هارفى أوزوالد رصاص بندقيته على الرئيس، أو لعل القاتل الحقيقى كان شخصا آخر مختبئا فى ساحة قريبة واختفى فور إتمام عملية الاغتيال. عادت أمريكا تتحدث عن مؤامرة اغتيال جون كينيدى. كدنا ننسى، ولكن هناك من لا ينسى ولا يريد لنا أن ننسى. يذكروننا بخطاب الرئيس ايزنهاور الذى حذر فيه من يأتى بعده إلى البيت الأبيض من قوة ونفوذ الحلف القوى القائم بين رجال الأعمال الأمريكيين ومديرى الشركات العملاقة وقيادات البنتاجون، وهو الحلف الذى اشتهر باسم المجمع الصناعى ــ العسكرى. فى هذا الخطاب طالب الجنرال دوايت ايزنهاور الشعب الأمريكى بأن يكون واعيا وحذرا طالما بقيت هذه الجماعة المتماسكة الأطراف والمترابطة الأجزاء مهيمنة على الحياة السياسية فى أمريكا. تردد وقتها أن من أهداف هذه الجماعة إشعال نيران حرب جديدة على الاتحاد السوفييتى. وقيل أيضا إن هذا الحلف وجد فى جون كينيدى الذى حل محل ايزنهاور فى البيت الأبيض خصما لدودا بسبب موقفه الثابت ضد الحروب واستخدام العنف. أما جون كينيدى نفسه، فينقلون عنه وهو رئيس للولايات المتحدة قوله، «كان والدى يقول لى خذ حذرك من رجال الأعمال.. فكلهم.. (عبارة غير لائقة).. ولم أصدقه وقتها، ولكنى أصدقه الآن. هنا فى مصر، يجرى التذكير بإصرار وإلحاح بجمال عبدالناصر. لم يكن خافيا أن جانبا غير بسيط من حملات التذكير بعبدالناصر كان بهدف الشماتة فى تيار الإخوان، أو على العكس للتهديد بالانتقام من كل ما كان يمثله عبدالناصر الرجل ونظام حكمه. سمعنا وقرأنا الكثير، ومنا كثيرون من الذين عاشوا التجربة مستفيدين من إيجابياتها أو متضررين من سلبياتها. هؤلاء وجدوا فى حملة التذكير بعبدالناصر قليلا من الحقيقة وكثيرا من الزيف، وهو ما وجده أيضا من عاش تجربة أنور السادات. ومازلنا رغم حبر وفير تدفق وحلوق جفت لا نعرف بالدقة حقيقة وظروف موت جمال عبدالناصر، ومازال فى ازدياد عدد من يعتقدون أنه مات بالسم الذى مات به أبوعمار. تحتاج الأمم فى ظروف معينة إلى من يذكرها بماضيها. أمم تخشى ان تكون ضلت طريقها نحو المستقبل. أمم أخرى تخشى ان تكون وقعت ضحية جماعات أو عصابات أو نخب سياسية سرقت ثرواتها وبددت أصولها وفرطت فى عقائدها وموروثاتها وإنجازاتها. أمم اعتقدت أنه ربما يكون فى تنشيط ذاكرتها التاريخية ما يخفف من آلامها. هناك أمم انهزمت عسكريا، أو أنهكت اقتصاديا، أو إنفرطت اجتماعيا وعرقيا، أو جفت الدماء فى عروق جسدها، فراحت تبحث فى ذاكرتها عن أسطورة تحكى عن عودة الوعى وعن البعث الجديد وعن تجارب نهوض بعد طول قعود. يحذر علماء من خطورة التمادى فى التمسح بالذاكرة الاجتماعية أو التاريخية. حدث كثيرا أن غاصت أمم فى ذاكرتها تبحث عن محفزات تديم عليهم نعمة الانبهار بالأسطورة، فللأساطير قوة تخدير للشعوب لا تعادلها قوة أى مخدر آخر. أمم وجدت فى إحياء الذاكرة مبررا لإطالة أمد الكراهية أو لإعادة شحن صراعات فى المجتمع. لا يخفى كذلك أن عملية الاستعادة الجماعية للماضى التى يقوم بها شعب من الشعوب تشبه إلى حد كبير العملية التى يقوم بها فرد لإعادة بناء ذاكرته وهو مستلقٍ على «كنبة» الطبيب النفسانى، كلاهما يغذى نفسه ذاتيا ويخلق حصانة مسبقة ضد حملات التكذيب أو التزييف للذاكرة الجديدة التى أعيد بناؤها. يرد آخرون دفاعا عن إحياء الذاكرة بالقول إنه فى عالم يناضل من أجل التخلص من أعباء الصراعات وعذاباتها، ومن أجل تصفية بؤر العنف والثأر، ومن أجل القضاء على مواقع الهدر والغدر، جدير بنا كشعوب غاضبة أن نسعى لنتعرف على مواقع المقابر الجماعية التى دفن فيها أهلنا من خصوم النظام الحاكم، ولنطلع على هوية السجانين والمعذبين، ولنعرف بالدقة هويات الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم الاغتصاب والخيانة. نريد أسماء الموتى ونريد قراءة التقارير التى يكتبها عنا المخبرون والجواسيس. نريد تصفية الذاكرة من ظلم الأسبقين.
(الشروق 27 نوفمبر 2013)