قضايا وآراء

من الإسلام الطائفي إلى الإسلام المقاوم

يرى الكاتب أن "طوفان الأقصى هو مجرد معركة في حرب فكرية وعسكرية طويلة الأمد"- الأناضول
عندما جاء "طوفان الأقصى"، كنّا من أوائل الذين ربطوا هذا الحدث التاريخي بمقولة "الاستبدال" القرآنية، وقد أسمينا ذلك بـ"الاستبدال العظيم"؛ لأنه عندنا في حكم الحتمية التي لا مهرب منها للأفراد والجماعات، سواء أكان ذلك الاستبدال مطلبا إلهيا متعاليا أم واجبا بشريا محايثا.

فأمام التهديدات الوجودية التي يُمثلها المشروع الصهيوني -أو الإمبريالية في مرحلتها المتصهينة-، لم يعد التغير الجذري خيارا بل ضرورة لا يقابلها واقعيا إلا القبول بأن يكونوا جزءا من "إسرائيل الكبرى"، سواء بالاحتلال المباشر أو بالاستعمار الفكري والاقتصادي. ولذلك فإن العرب والمسلمين قبل غيرهم، مضطرون إلى تغيير ما بأنفسهم في مستوى البنى الفكرية والمخيالية والمرجعية -أي تغيير أنساق ذواتهم الفردية والجماعية-، حتى لا يتأبدوا في وضعية "الأضحية المقدّسة" للتغييرات العنيفة (رمزية ومادية)، التي تفرضها القوى الصهيو-صليبية ومجموعاتها الوظيفية، فيما يُسمّى بالدول الوطنية. فهذه الدول لم تكن يوما –في مستوى سياساتها العامة أو في علاقتها بالخارج والداخل-، إلا منظومات للاستعمار الداخلي مهما كانت شرعياتها التقليدية والحداثية.

رغم أن المقاومة الإسلامية -بجناحيها السني والشيعي- لم تتخلص من مرجعياتها الطائفية، ورغم أن هذا المطلب قد يكون ضربا من المثالية في هذه المرحلة التاريخية، فإن التقاءها في مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة، هو خيار يخترق السياج المذهبي، ويمهّد لتحولات فكرية، ومراجعات أصولية تتجاوز القضية الفلسطينية، بل تتجاوز إقليم الشرق الأوسط برمته.

رغم أن المقاومة الإسلامية -بجناحيها السني والشيعي- لم تتخلص من مرجعياتها الطائفية، ورغم أن هذا المطلب قد يكون ضربا من المثالية في هذه المرحلة التاريخية، فإن التقاءها في مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني في المنطقة، هو خيار يخترق السياج المذهبي، ويمهّد لتحولات فكرية، ومراجعات أصولية تتجاوز القضية الفلسطينية، بل تتجاوز إقليم الشرق الأوسط برمته. فهي تنسف الكثير من المصادرات الطائفية التي عطّلت التقاء جناحي الأمة، واستضعفتهما ووظفتهما لخدمة مشاريع استعمارية، لا يمكن أن تستمر إلا بتغذية الطائفية، وغيرها من أشكال التفتيت وإضعاف الجبهات الداخلية.

إن مشروع المقاومة المشتركة لا يستوي على سوقه، إلا إذا خرج الشيعيُ من تلك الصورة النمطية التي تراه "أشد كفرا من اليهود والنصارى"، وورثتهم في التحالف الصهيو-صليبي، كما أن ذلك المشروع لا يمكن أن ينجح إذا استمر اختزال السُّني في كونه وريث يزيد أو قاتل الحسين، أو الحليف الموضوعي للاستكبار العالمي بقيادة "الشيطان الأكبر" (أمريكا). وهو ما يعني أننا أمام تمثّلات/أطروحات جديدة قد لا تنسف المقولات التراثية، ولكنها ستخلخلها أو على الأقل ستحيّدها موضوعيا في انتظار القيام بمراجعتها جذريا، ولو بعد حين.

إن الإسلام الطائفي ليس فقط انتقالا "من إسلام القرآن إلى إسلام المحدثين" في الدائرة السّنية (وهو عنوان الكتاب المهم الذي ألفه الراحل جورج طرابيشي، وصدر في طبعته الأولى عن دار الساقي في بيروت سنة 2010)، وليس هو أيضا مجرد انتقال من "إسلام القرآن إلى إسلام الأئمة المعصومين" عند الشيعة، أي ليس فقط انتقالا من إسلام الرسالة إلى إسلام التاريخ، ومن إسلام "أم القرى" إلى إسلام الفتوحات.

إن الإسلام الطائفي عندنا، هو تلك الأنساق الفكرية والمخيالية التي استصحبت روح القبلية (إسلام السنة) أو العشيرة (إسلام الشيعة)، وأسست عليها تراتبيات اجتماعية وأنساقا حجاجية تدعي جميعها احتكار "الحق" والوفاء لروح النبوة الخاتمة. كما أن الإسلام الطائفي هو ذلك الإسلام الذي يتماهى مع "الإسلام المحمدي"، فيختزل الأمة في الطائفة ويطابق بين قول "المشرّع الأصلي" (الله سبحانه وتعالى) وكل مصادر التشريع المشتقة (ما يُنسب إلى الرسول والأئمة وأصحاب المذاهب الفقهية والعقدية، وما يختاره العلماء المعتبرون في الطائفة، وغيرهم ممن بلغ رتبة الإفتاء).

إن الإسلام الطائفي هو في جوهره كل تلك المشاريع السلطوية، سواء أوصلت للحكم أم بقيت في المعارضة، تلك المشاريع التي لا يمكن أن تكتسب شرعيتها إلا بإنكار ضمني لاكتمال الدين وتمام النعمة على عهد الرسول. وهو اكتمال جاء صريحا في الآية الثالثة من سورة المائدة بقوله تعالى: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا".

ولا يشك عاقل في أن الدين الذي اكتمل -بشهادة القرآن ذاته- لم يكن فيه كتب حديث ولا متون أصول ولا مدوّنات عقدية وفقهية، ولكنّ مشكلة ذلك "اليوم" القرآني وما سبقه أو تلاه في حياة الرسول، تكمن في أنه لم يكن قابلا للاسترجاع إلا بعيون طائفية، أي بعقول تختزل الرسول ومشروعه "الخلاصي" في خياراتها هي دون غيرها. ونحن نذهب -على عكس المقولات الطائفية-، إلى أنّ "يوم الله" هو يوم قرآني بالضرورة، بحيث يكون البحث عنه خارج الوحي ابتعادا مؤكدا عن روح النبوة الخاتمة ومشروعها لتحرير الإنسان من عبادة الإنسان، أي لمشروعها التوحيدي الذي لا معنى له اجتماعيا إلا بتوحيد ثان مداره حرية الإنسان وكرامته.

تاريخيا، أكدت كل التجسيدات الطائفية للمشروع المحمدي، أنها مجرد مشاريع سلطوية قهرية لا يحضر الدين فيها إلا لخدمة "لصوص الله" (وهو عنوان الكتاب القيم لعبد الرزاق الجبران)، مهما كانت مرجعياتهم المذهبية. ولا شك عندنا في أن سرقة الرعية (أو الشعب) محوجة إلى سرقة الله ونبيه.
إن جوهر الإسلام الطائفي في عالمنا الحالي، هو "أسلمة" المنطق القبلي بتهميش ورثة أبي ذر، وإعلاء كلمة الملأ القرشي بعد وضعها كذبا وبهتانا على فم الرسول، كما أن الإسلام الطائفي يستمد علة وجوده من سرقة كل معاني الحرية والكرامة والعدالة والمسؤولية التي جاء بها الإسلام، وإخراجه للناس بصورة تحرّض واقعيا على تأليه الحاكم (ومن يسنده من الفقهاء)، وتشيع الاتكالية وتؤبد الصور النمطية التراثية للعدو "القريب" (أي المختلف طائفيا) للتغطية على العدو الأقرب، أي العدو المتصهين الذي يتحكم من خلف ألف حجاب في مناويل التنمية ومناهج التعليم وجميع المنتجات الثقافية.

عندما نتحدث عن الإسلام المقاوم باعتباره تجاوزا جدليا للطائفية، فإننا لا نتماهى مع العديد من الأطروحات "الحداثية" التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام القرآني، باعتباره النقيض الموضوعي للإسلام الطائفي أو إسلام التاريخ، فأغلب هذه الأطروحات "القرآنية" لا تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن لتحكيمه بين الناس أو لإشراكه في إدارة الفضاء العام، بل هي تفعل ذلك فقط لنقض أطروحات الإسلام السياسي، القائمة على الموروث الطائفي بأطروحاته المعلومة.
عندما نتحدث عن الإسلام المقاوم باعتباره تجاوزا جدليا للطائفية، فإننا لا نتماهى مع العديد من الأطروحات "الحداثية" التي تدعو إلى العودة إلى الإسلام القرآني، باعتباره النقيض الموضوعي للإسلام الطائفي أو إسلام التاريخ، فأغلب هذه الأطروحات "القرآنية" لا تدعو إلى الاكتفاء بالقرآن لتحكيمه بين الناس أو لإشراكه في إدارة الفضاء العام، بل هي تفعل ذلك فقط لنقض أطروحات الإسلام السياسي، القائمة على الموروث الطائفي بأطروحاته المعلومة.
وهي تتعامد وظيفيا مع السلطات القائمة مهما كانت طبيعة شرعياتها (تقليدية أو حداثية)، بل هي تلتقي موضوعيا مع العديد من الأطروحات الاستشراقية القائلة بـ"الاستثناء الإسلامي"، أي باستحالة التوفيق بين الإسلام في ذاته (بما في ذلك القرآن) والعقل السياسي الحديث.

إن العودة إلى "القرآن" عندنا لا تعني "محو" التاريخ أو نفيه بصورة متخيلة، ولا تعني أيضا وضع كل التراث الطائفي في سلة واحدة ورميها في بحر النسيان، بل هي تعني مراجعة ذلك التراث واستخلاص ما ينفع الناس فيه -وليس فقط المسلمين- وتفعيله في مشروع "المقاومة".

ختاما، فإننا لا نعد مشروع المقاومة مجرد مشروع لتحرير فلسطين، وإن كانت تلك نقطة بدئه، ولا نعده أيضا مجرد مشروع لتحرير العرب والمسلمين من أغلال الطائفية ومشاريع الاستلحاق الاقتصادي والثقافي، برعاية النخب الدينية والحداثية "المتصهينة". إن مشروع المقاومة هو أساسا مشروع "إسلامي" لتحرير الإنسانية جمعاء من الإمبريالية في لحظتها الصهيونية، بعد تحرير العرب والمسلمين من "الرواكد"، أي من كل القوى التي لا حياة لها إلا في الماء الآسن للطائفية وللتحديث المشوّه.

ونحن نؤمن أنّ طوفان الأقصى هو مجرد معركة في حرب فكرية وعسكرية طويلة الأمد، كما أننا نؤمن أنّ مستقر تلك الحرب لن يكون إلا خروج العرب والمسلمين من وضعية "النقطة الكونية السوداء" أو الهامش الوظيفي للإمبريالية؛ إلى وضعية "الرحمة للعالمين" أو وضعية الفاعل الكوني بقيم "إسلامية" حقيقية، قد يظن المسلمون قبل غيرهم -من شدة تهميشها أو تغييبها المتعمد- أنها ليست من الإسلام، وما هي إلا جوهر الإسلام الذي سيعود غريبا (عن الأطروحات الطائفية والحداثية الزائفة)، كما بدأ غريبا (عن وعي المستكبرين من الملأ القرشي).

twitter.com/adel_arabi21