مقابلات

السياسي الجزائري المعارض كريم طابو في حوار شامل مع "عربي21" عن حرب غزة

المسألة الفلسطينية هي قضية أخلاقية بالنسبة للإنسانية، هي ليست نزاعا بل هي قضية احتلال- (عربي21)
كريم طابو سياسي جزائري معروف بمواقفه السياسية الصريحة وانتقاداته الحادة للمسؤولين الغربيين بسبب نهجهم الانتقائي في مسألة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو أحد الوجوه البارزة والمعروفة للحراك الشعبي، مسؤول سياسي سابق ومعارض شرس للسلطة الجزائرية، سجن واعتقل عدة مرات بسبب مطالبته بالتغيير الديمقراطي في الجزائر. وهو متابع قضائيا اليوم، بتهم تتعلق "بالاعتداء على أمن الدولة" و"التحريض على التجمهر" و"نشر معلومات تمس بسلطة وسمعة الجيش".

في هذه المقابلة الخاصة مع "عربي21"، يستعرض كريم طابو، بعض الأحداث الدولية الراهنة، خاصة الحرب ضد غزة، زيارة المقرر الأممي الخاص للأمم المتحدة للجزائر، قمة البريك، الواقع السياسي في الجزائر، كما أنه يشرح لنا أيضا، خيبة أمله وتجربته القاسية مع العدالة، ووضع الحريات العامة في الجزائر والآفاق السياسية.

وفي ما يأتي مجريات الحوار كاملة:

س ـ لنبدأ بالأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط، رئيس دولة فرنسا، في زيارة لـ"إسرائيل"، دعا إلى إنشاء تحالف دولي لمحاربة حركة حماس. ماهي قراءتك؟

 ـ  بدعوته لتشكيل تحالف دولي لمحاربة حركة حماس التي يصفها بمنظمة "إرهابية" لا تمثل الشعب الفلسطيني حسب قوله، فإن إيمانويل ماكرون يصطف تماما مع المواقف المتطرفة لليمين الإسرائيلي. وأبعد من ذلك فإنه يعطي "ذريعة سياسية" لعملية عسكرية إسرائيلية ضخمة وواسعة النطاق، يتبين مع مرور الوقت أنها عملية تطهير عرقي ضد السكان الفلسطينيين في غزة.

أما في قضية تمثيل الشعب الفلسطيني، فإنه أغفل أن يقول، وهذا وجه من أوجه النفاق السياسي الغربي، أنه من الصعب الحديث في ظل الاحتلال كما هو الحال في فلسطين، عن الانتخابات والتمثيل. ومن المهم التذكير، أن المرة الوحيدة التي طلب فيها من الشعب الفلسطيني التصويت على ممثليه، فإنه صوت لصالح حركة حماس في انتخابات وصفها مراقبو الاتحاد الأوروبي، بأنها ديمقراطية وتمثل نموذج للعالم العربي.

إن تسرع رئيس الدولة الفرنسي، الذي ضاعف التصريحات المناقضة لبعضها البعض، يشهد ليس فقط على افتقاره للشجاعة السياسية، ولكن أيضا وخاصة، على تضايقه وتضايق العالم الغربي من تقديم أي شكوى ضد الدولة الصهيونية.

 يحاول إيمانويل ماكرون من خلال إثارة كل هذه الضجة، العودة إلى الضوء وإلى واجهة المسرح الدولي، بعد الاهانات التي تعرض لها على المستوى الدبلوماسي. نشاطه في بداية النزاع الروسي ـ الأوكراني تلاشى مع الزمن ومع احتدام الصراع، وفي نهاية المطاف، بصرف النظر عن مكاسب انتخابية هزيلة وإعادة انتخابه لعهدته الأخيرة، فإن فرنسا في فترة حكمه تتأخر وتترنح وهي منهكة وفي طريق الانهيار.

 بإصراره على ما لقامت به حماس وتجاهله الانتهاكات الخطيرة والقصف الرهيب الذي يرتكبه الجيش الإسرائيلي ضد السكان المدنيين الفلسطينيين، فإنه يؤكد فقط الموقف الانتقائي وازدواجية المعايير، لبعض الدول الغربية في مسألة حقوق الانسان وتطبيق القانون الدولي.

 طبعا، هذا لا ينبغي أن يجعل محل شك، الالتزام الصادق لرأي العام الغربي من المثقفين والمنظمات غير الحكومية وغيرها من هياكل المجتمع الدولي للشعوب، التي تواصل رغم كل شيء النضال من أجل الحريات والكرامة الإنسانية، دون تمييز على أساس عرق أو طائفة أو انتماء جغرافي ولا على أساس الجنس أو لون البشرة..

س ـ ألا تعتقد أن تقييمك للوضع قاس للغاية؟

 سأذكرك بحدث عشناه منذ عقد من الزمن..

هل تتذكر شاليط؟ في عام 2006 جلعاد شالي جندي إسرائيلي يحمل الجنسية الفرنسية، قبض عليه من طرف فصيل مسلح من حركة حماس، في أحد مواقع الحراسة للجيش الإسرائيلي بالقرب من قطاع غزة. بمقابل إطلاق سراح هذا العريف في الجيش الإسرائيلي، الفلسطينيون طلبوا إطلاق سراح نساء وقصر معتقلين في سجون إسرائيل. من أجل شاليط تم تعبئة وحشد وسائل الإعلام الغربية واجتمعت البرلمانات في جلسات خاصة واعتبر ما حدث مسألة طوارئ دبلوماسية، وفي كل مكان أمرت حماس بالأفراج عن الجندي. في حين مطالب حماس لم يكن لها أي صدى، الجيش الإسرائيلي شن هجوما على قطاع غزة واعتقل أكثر من ستين إطار في حركة حماس من بينهم نواب ووزراء وكبار المسؤولين الإداريين، وقتل أكثر من ألف مدني. وفي هذه المرة مادام الأمر يخص الفلسطينيين، فإن وسائل الاعلام و البرلمانات ورؤساء الدول الغربية التزمت الصمت.. رغم أن الأمر يتعلق بوزراء ونواب وبمئات من القتلى.

س ـ  لكن هذه المرة هم يقولون إن "حماس" هي التي بدأت الأعمال العدائية؟

 ـ تتحدث عن الأعمال العدائية؟ الفلسطينيون منذ 1948 وهم يعانون من كل أشكال العنف، يكاد يكون من المعجزة الآن، رؤية أشخاص يعلنون أنفسهم فلسطينيون. لقد فعل كل شيء من أجل محو الشعب الفلسطيني من على هذه الأرض. فمنذ إنشاء ما يسمى "البيت اليهودي" في أرض فلسطين، والملاك الحقيقيون لهذه الأرض يعانون من الهجمات والعنف ومصادرة الأراضي، والتهجير القسري.

عندما أسمع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ينتابني شعور بأن بعض القادة الغربيين يسخرون من ذكائنا ويعتبروننا فاقدي الذاكرة. كيف يجرؤ، بايدن، ماكرون، أولاف شولز، أرسولا فون دير لاين وريشي سوناك، على الحديث عن شرعية الدفاع عن النفس فوق أراضي تحتلها إسرائيل بطريقة غير قانونية وعلى حساب المجازر وإراقة دماء السكان الفلسطينيين. سيبقى راسخا في ذاكرة البشرية، نفاق واستخفاف هؤلاء القادة الغربيين، المتواطئين في المجزرة التي حولت قطاع غزة إلى مقبرة ضخمة للأطفال والنساء والمسنين.

 كيف يجرؤون على الحديث عن الدفاع عن النفس، لدولة تنتهك جميع القواعد والقانون الدولي، عشرات من قرارات الأمم المتحدة تعثرت، جرائم ترتكب على المباشر، موثقة وموضحة، ألاف الفلسطينيين دفعوا نحو المنفى، منازل هدمت، قرى بكاملها أفرغت من سكانها واستبدلت بمستوطنات، كل هذا تحت مرأى ومسمع المجتمع الدولي.

مع ذلك فإن دولة إسرائيل هي حالة فريدة من نوعها، فهي دولة مدينة بإنشائها لهيئة الأمم المتحدة، وفي نفس الوقت ترفض الخضوع لقرارات الأمم المتحدة.. السؤال الذي يطرح هو: كيف لدولة نشأت باسم مبدأ لكل شعب الحق في دولة، ترفض حق الشعب الفلسطيني في تأسيس دولته؟

 في عام 2004 أدانت محكمة العدل الدولية، قيام إسرائيل ببناء الجدار العازل ودعت لتفكيكه. إن الدولة التي تسمح لنفسها بتجاهل مئات من قرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وترفض رأي محكمة العدل الدولية، تصبح هي نفسها عائق في وجه حل سلمي عادل ودائم لهذا الصراع.

 لكن إذا أردنا عكس مسار الإشكالية، فإنه من مسؤولية الهيئات الدولية اليوم الإجابة عن السؤال المتعلق بكيفية وضع حد لهذا الانكار والظلم؟ إن رفضكم إعطاء إجابة واضحة عن المواعيد المحددة لتأسيس دولة فلسطينية ذات سيادة على أرض بحدود محددة بدقة، ينطوي على حق ثابت وغير قابل للتصرف، هو حق الفلسطينيين في المقاومة بكل الوسائل، بما فيها المقاومة المسلحة من أجل انتزاع حقهم في تقرير المصير.

س ـ لكن في الماضي كانت هناك مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فكيف تفسر استمرار العنف؟

  ـ في الواقع تواصل إسرائيل تنفيذ خطتها الأصلية في قتل الشعب الفلسطيني. وفي كل مرحلة من هذه الخطة وبتواطئي مع الغرب، ترتب لإيجاد ذرائع لفرض املاءاتها.

 في أعقاب اتفاقيات أوسلو، التي عقدت تحت رعاية أمريكية وفي سياق ضعف تام لسلطة الفلسطينية وبعد انتزاع تنازلات كبيرة من ياسر عرفات رحمه الله، إسرائيل سرعت مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء المستوطنات. لذا وجد المفاوضون الفلسطينيون أنفسهم عرضة للخيانة من قبل إسرائيل، وتجاهلهم الأمريكيون، وفقدوا مصداقيتهم أمام الرأي العام. جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد استغل هذا الضعف السياسي للسلطة الفلسطينية وبتواطئي مع بعض القادة العرب، لإفساد ورشوة بعض المسؤولين الفلسطينيين، وإثارة الخلافات بين حركتي فتح وحماس.

 إن الخيانة التي كانت ضحيتها السلطة الفلسطينية، عززت بين جمهور واسع من الرأي العام الفلسطيني، أن خيار التفاوض والمحادثات هو مضيعة للوقت. هذه الوضعية لم تأتي مصادفة، إنها نهج مدروس جيد. من خلال اللعب على الخصومات بين فتح وحماس، أجهزة المخابرات الإسرائيلية، شوهت سمعت أي تمثيل سياسي فلسطيني، وخلقت "الدافع" للإقصاء والحفاظ على هذا الواقع الراهن والقاتل. مستغلا هذه الحالة وكما يفعل دائما وفي كل مرة، اليمين الإسرائيلي، يفرض أمرا واقعا للتوتر والفتن والمزايدة.

 أما بالنسبة لقائد منظمة التحرير الفلسطينية، فقد وجد نفسه بعد بضع سنوات محاصرا في إقامته في رام الله، يعاني من كل الاهانات، متهما بالتواطئي مع الإرهاب، وبعد أن تخلى عنه إخوته العرب لاسيما مصر والأردن، ياسر عرفات توفي في ظروف يرثى لها وما زالت غامضة إلى اليوم.

 هذا الوضع ساعد في تصاعد قوة حماس وأكسبها تقدير واحترام ليس فقط الرأي العام الفلسطيني، بل أيضا الرأي العام العربي.  تقريبا هي علاقة جدلية، الانسدادات السياسية غالبا ما تؤدي إلى ظهور حركات تدعو إلى تبني الكفاح المسلح كوسيلة للتحرر من نير الاستعمار والتعسف.

س ـ  لكن الصراع يأخذ أبعادا غير متوقعة؟

  ـ العملية التي نفذتها كتائب القسام ضد أهداف عسكرية اسرائيلية داخل مستوطنات تقع حول قطاع غزة، اعتبرت إهانة عسكرية لإسرائيل. الأثر النفسي لهجوم حماس، كبير لدرجة أن نتنياهو يجد نفسه في مواجهة أحد أصعب الاختبارات في مساره السياسي والمهني.

 لكن في الوقت نفسه، المتطرفون الإسرائيليون، وبدعم غير مشروط من الإدارة الأمريكية والبلدان الغربية، يحاولون جعل هجوم حماس، الدافع لتحريك الآلة القاتلة للتطهير العرقي، على أمل إثارة رعب يؤدي إلى تهجير قسري لسكان غزة واثبات قوتهم وسيطرتهم بشكل نهائي، ومواصلة عملية الضم ـ مصادرة الأراضي الفلسطينية ـ إنها ليست فقط جريمة ضد الإنسانية، إنه إعدام مبرمج لفلسطين، شعبا ودولة.

س ـ  هل تعتقد حقا أن الرهانات مهمة لهذه الدرجة الكبيرة؟

  ـ إن تعبئة وسائل عسكرية إسرائيلية ضخمة ونشر قوات عسكرية أمريكية في منطقة شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط، يبشر بحقبة جيوسياسية وعسكرية جديدة في المنطقة.

إن إرسال قوة بحرية كبيرة والتي تشمل أكبر حاملة طائرات لها ونظام دفاع صاروخي على ارتفاعات عالية وبطاريات صواريخ أرض-جو وبطاريات مصممة لاعتراض صواريخ بعيدة المدى، ووضع في حالة الاستعداد "قبل الانتشار" للقوات الخاصة الأمريكية، لا تتناسب لدرجة، أن هجوم حماس لا يمكنه لوحده أن يفسر هذه التعبئة.

رسالة الأمريكيين هي الحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي واحتلال الميدان للحد من تأثير القوى الإقليمية كإيران وتركيا.

 تهدئة العلاقات بين إيران والسعودية، وانضمامهما لمجموعة البريكس، والشراكات الاستراتيجية التي أقامتها إيران وتركيا مع الصين، التي أصبحت الشريك التجاري الرئيسي لهذه المنطقة، تشكل عناصر قد تغير المعطيات الاقتصادية والسياسية في المنطقة.

س ـ ما هي المكانة التي تحتلها القضية الفلسطينية في كل هذه القضايا والرهانات الجيوسياسية؟

  ـ بالنسبة للفلسطينيين هذه المسألة أساسية وحيوية، بل إنها جزء من كيانهم. لا يمكن محو ذاكرة وتاريخ كامل وحلم بالحرية، مهما كان التزوير والعنف الذي تعرضت له. ما فشل الغربيون والإسرائيليون دائما في فهمه، هو أن من جيل إلى جيل من الفلسطينيين، ظل الحلم كما هو لم يتغير. تحرير فلسطين من الاحتلال. الصدمات والعنف الذي عانو منه زاد في شعورهم بالانتماء لفلسطين، وبتالي واجب العمل من أجل تحريرها، الافتراءات الإسرائيلية المغلفة دينيا والقراءة الخاطئة للتاريخ، لن تغير شيء من هذه الحقيقة الثابت والمتمثلة في أن فلسطين هي أرض فلسطينية..

 في نفس الوقت تقف فلسطين اليوم، في مفترق طرق جميع الرهانات الجيو السياسية للمنطقة الممتدة من شرق المتوسط إلى كل الشرق الأوسط. بالنسبة لروسيا وبعيدا عن أي تعاطف مع الفلسطينيين، تجد في هذا التوتر مصلحة خاصة، هذا النزاع يتطلب جهد حربي إضافي للأمريكيين الذين يجدون أنفسهم منخرطين في جبهتين حربيتين، أوكرانيا وفلسطين.

 بالنسبة للصين التي اعتادت على موقف محايد تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، فإن تصاعد العنف في هذه المنطقة، سيكلف الأمريكيين وحلفاءهم ثمنا ماليا باهظا ويقلل من تركيزهم على منطقة شرق أسيا، التي هي موضوع رهان اقتصادي وأمني. ولا تزال الصين شيرك تجاري هام لبلدان المنطقة، تفضيلها لإيران وتركيا في ميدان التعاون في مجال الطاقة والتكنولوجيا والتسلح، يشركها بنشاط في المسائل الجيوسياسية للمنطقة.

فلسطين تجد نفسها اليوم، رغما عنها، في مركز رهانات جيو سياسية، مزيج من الثقافة والدين والتجارة والسياسة. صدام الحضارات، حروب دينية في ظل سباق تسلح، الحرب الحالية ضد غزة لم تكشف عن هذا الواقع فحسب، بل عمقت بشكل دائم الفجوة الثقافية والسياسية والدينية بين العالم الإسلامي والغرب. الجرح عميق جدا، لدرجة أن عملية سلام حقيقية في ظل هذه الظروف هي من قبيل المعجزة..

س ـ التكلفة البشرية لهذه الحرب مفرطة، آلاف الشهداء والجرحى، والصدمات والدمار. ما الذي يبرر في رأيك، رد فعل "إسرائيل"؟

  ـ إن قصف المدنيين في المدارس والمستشفيات ومكان تجمع النساء والأطفال هو أكثر من مجرد جريمة حرب، إنه جريمة ضد الإنسانية. الجيش الذي يرتكب مثل هذه الجرائم ويجد طريقة لتبريرها هو جيش بحاجة إلى المجد، إنه جيش بلا شرف.

 كل هذه الأشلاء البشرية المتناثرة في الشوارع وعلى جدران غزة، الأجساد الممزقة لأطفال ونساء بدون حماية، المشردين بدون مأوى، يجب أن تحصى وتدون وتسجل، حتى تبقى شاهدة على الجرائم البشعة التي ستدرج في سجلات التاريخ الاجرامي لكل رؤساء الدول المتواطئين في هذه الحرب.

أن يكون لك كصديق وحليف سياسي كالمجرم بنيامين نتنياهو، ليس فقط خيانة لقيم الحرية والعدالة والمساواة، إنه عار وخزي وهوان.. لذلك يبقى فقط للرأي العام، وحده أن يعمل لإنقاذ النزر الضئيل المتبقي من شرف الإنسانية، وذلك من خلال الإلزام بالوقف الفوري لهذه الحرب ومتابعة جميع المتورطين فيها. وخلاف ذلك، فإن البشرية كلها ستتجه نحو صراعات وانقسامات مستعصية الحل.

س ـ ما هو تقييمك لرد فعل الدول من جهة، ومن جهة أخرى لرد فعل الرأي العام، لحد الآن؟

  ـ إن القسوة والوحشية والتدمير الناجم عن قصف الجيش الإسرائيلي للسكان المدنيين لغزة، لا يمكن أن يترك أحدا غير مبال. المشهد الكارثي للإغارة على أحياء بكاملها، الأجساد البشرية الممزقة، صراخ الجرحى تحت الأنقاض، القتلى الذين يعدون بالألاف، الأطفال والنساء والمسنين العالقين تحت القصف، لا يمكن أن تترك أحدا بدون إحساس إلا أصحاب القلوب القاسية.

طريق الشعوب لفرض قيمها مازال طويلا، لكن كما يقول مولود معمري رحمه الله: "استمر في الكفاح، في ذروة المعركة، لأنه حينما يبدو لك أن كل شيء قد ضاع، فثم عليك ألا تستسلم “.
 في جميع أنحاء العالم وعلى الرغم من الدعاية الإسرائيلية، ملايين من المواطنين تحدوا الحضر ومحاكم التفتيش والتضيق والازدراء، وأظهروا دعمهم للشعب الفلسطيني.

 في إسطنبول وباريس ولندن، في اليمن ولبنان وتونس، في جاكرتا واسلام أباد، في رام الله ونيورك، في روما وعمان، في كيب تاون بجنوب إفريقيا وفي مدن أخرى من العالم، التعبئة من أجل وقف قصف السكان المدنيين، كانت استثنائية وغير عادية.

 أما بخصوص الدول، مع الأسف، فكالمعتاد منطق المصالح له الأسبقية على مسألة القيم والقانون، مصطلح المصالح يتضمن ما هو أبعد من المبادلات التجارية والشراكات، إنه يتضمن اتفاقات عسكرية ودعم سياسي وتعاون استراتيجي.

 بالإضافة إلى حجم المصالح بين الدول، يطرح أيضا مشكل التداخل بين منطق الدولة ومنطق السلطة. البلدان التي تحكمها أنظمة سياسية ضعيفة والتي تعاني من مشكل الشرعية تجد نفسها خاصة في أوقات الأزمات الكبرى، بلا صوت وبلا كلمة مسموعة.

س ـ  حتى على القضية الفلسطينية؟

 بالأخص هي.. بما أن هذه المسألة متعلقة بالقانون الدولي، فإنه يقع على عاتق المجتمع الدولي بالطبع، انفاذ قواعده وقرارته وقوانينه. حق الشعب الفلسطيني بأن تكون له دولته هو أكثر من حق، إنه دين مستحق على المجتمع الدولي.

الأنظمة العربية تستخدم القضية الفلسطينية، كواسطة سياسية وانتخابية، ولا تقدم أي قيمة مضافة لهذه القضية، الأنظمة العربية هي مزيج من المتابعين والمطبليين والمنافقين والمهرجين..

س ـ  هل أنت متفائل بعد كل هذه المأساة؟

 المسألة الفلسطينية هي قضية أخلاقية بالنسبة للإنسانية، هي ليست نزاع بل هي قضية احتلال.. يتعلق الأمر بإنهاء العنصرية والأبارتييد والفاشية، التي تستهدف الفلسطينيين. المجتمع الدولي عليه أن يخرج من سباته ويتحلى بالشجاعة لقول الحقيقة وألا يبقى صامتا أمام هذا الظلم، موقف دولة بوليفيا التي قطعت علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب جرائم الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، هو جرأة وإظهار لشجاعة سياسية ودبلوماسية. لقد أعطى هذا البلد أفضل مثال لما يجب أن يكون عليه المجتمع الدولي للقيم والمبادئ والقانون.

طريق الشعوب لفرض قيمها مازال طويلا، لكن كما يقول مولود معمري رحمه الله: "استمر في الكفاح، في ذروة المعركة، لأنه حينما يبدو لك أن كل شيء قد ضاع، فثم عليك ألا تستسلم “.

س ـ بالعودة إلى القضايا الوطنية، كيف تقيم الزيارة الأخيرة للمقرر الخاص للأمم المتحدة، إلى الجزائر؟

  ـ لقد رأى بعينه وعن كثب، أن جميع القيود مفروضة على ممارسة حرية التجمع وانشاء الجمعيات، وفي ندوته الصحفية أوصى السيد كليمنت نيالتسوسي فول، الحكومة الجزائرية بتخفيف القيود الصارمة المفروضة على التجمعات والجمعيات، حتى تتوافق القوانين والممارسات مع الدستور والقانون الدولي. كما تطرق أيضا إلى الحراك الشعبي وتطلعاته لتغيير، موضحا أن الحراك أظهر روحا مدنية رائعة ومدهشة وأعطى أفضل قدوة للعالم في تنظيم احتجاجات سلمية. كما أشار إلى أن التهم الجنائية الموجهة بموجب قوانين مفرطة التقييد، بما في ذلك قانون مكافحة الإرهاب، تتعارض مع الالتزامات الدولية للجزائر في مجال حقوق الانسان وهي موجهة ضد الافراد والجمعيات والنقابات والأحزاب، وتخلق مناخا يسوده الخوف.

 حتى ولو أن توصيات المقرر الخاص غير ملزمة فإنها أشارت إلى ثلاث أشياء مهمة بالنسبة لنا:

ـ قيود صارمة مفروضة على المظاهرات.
ـ قوانين مفرطة التقييد بما في ذلك قانون مكافحة الإرهاب (مادة 87 مكرر من القانون الجنائي) والتي تتعارض الالتزامات الدولية للجزائر.
ـ الحراك حركة تطلعات ديمقراطية أبانت عن روح مدنية رائعة.

 من المؤكد أن هذه الملاحظات لن ترضى عنها السلطات التي عارضت منذ سنوات مجيء المقرر الخاص، وأعلنت مرار عدم وجود معتقلي الرأي في السجون.

س ـ يربط البعض بين رفض قبول الجزائر في مجموعة "بريكس" ووضعها الداخلي المتسم بعدم الاستقرار السياسي، ما رأيك؟

  ـ شخصيا، كنت سأتفاجأ لو قبلت الجزائر في مجموعة البريكس.. السلطة راهنت على الانضمام إلى البريكس لأسباب سياسية. في الحقيقة كل ما يهم السلطة هو إعطاء مظهر لحضور " الجزائر الجديدة" على مستوى القضايا الاقتصادية العالمية الكبرى، وكان لانضمامها لهذه المجموعة، أن يمنحها هالة أو حتى شرعية تفتقر لها داخليا إلى حد كبير وبشكل مزمن. رئيس الدولة وعد أن سنة 2022 ستكون سنة الانتعاش الاقتصادي وإصدار قانون الاستثمارات واستعادت توازنات الاقتصاد الكلي والميزان التجاري. مستفيدا من التدفقات النقدية الناشئة من ارتفاع أسعار المحروقات، ظن رئيس الجمهورية أنه وجد حلا للأزمة الاجتماعية، فأنشأ منحة بطالة وقرر زيادة طفيفة في الأجور. حساباته هي ضمان سلم اجتماعي من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق "ضربة جيدة" بالانضمام للبريكس ستمنحه ثقة شعبية.

ويرفض سماع أي شيء، رغم التحفظات التي أعرب عنها خبراء مخضرمون في المجال الاقتصادي والجيو سياسي، رئيس الدولة، حاول الجعل من طلب الانضمام للبريكس، حيلة للمراوغة السياسوية. 

 وبسذاجة أعتقد بعض المواطنين أن هذا الانضمام سيضع حدا للمشاكل التي تتخبط فيها البلاد.  لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشكل تحليل سطحي ساذج وارتجال اقتصادي وأكاذيب سياسية وتلاعب بالأرقام وعبث بالتشريعات، مؤهلات لطلب مثل هذا. إن الاقتصادات القوية، تعتمد أساسا على الاستشراف وخلق الثروة والتحكم في تكنولوجيا والاستقرار السياسي، والعديد من الشروط الأخرى لكي يكون لها مكانة بين الكبار في العالم.

فلسطين تجد نفسها اليوم، رغما عنها، في مركز رهانات جيو سياسية، مزيج من الثقافة والدين والتجارة والسياسة. صدام الحضارات، حروب دينية في ظل سباق تسلح، الحرب الحالية ضد غزة لم تكشف عن هذا الواقع فحسب، بل عمقت بشكل دائم الفجوة الثقافية والسياسية والدينية بين العالم الإسلامي والغرب. الجرح عميق جدا، لدرجة أن عملية سلام حقيقية في ظل هذه الظروف هي من قبيل المعجزة..
لضمان اندماج وتكامل اقتصادي حقيقي في عالم اليوم، فمن الضروري للغاية وضع حد للشعارات الجوفاء واحترام المعاير المطلوبة في الإدارة الحديثة للاقتصاد والسياسة، وكبح مواطن الضعف الداخلية وإعطاء الأولوية للذكاء.

في بلد حيث الثكنة مزودة أحسن من الجامعة، والوالي أهم من الأستاذ، والإمام أكثر أهمية من الباحث، والراقصة أكبر قيمة من الكاتب، والمخبر أفضل من المناضل، والكذب شيد كخطاب سياسي، والدعاية المغرضة رقيت إلى مستوى السياسة الإعلامية، فإن الإفلاس لا مفر منه..

 في اليوم الموالي لتوسيع مجموعة البريكس لتشمل الدول الست الأخرى (إيران، المملكة العربية السعودية، اثيوبيا، مصر، الأرجنتين، الإمارات العربية المتحدة) أعن وزير خارجية روسيا، أن شروط الانضمام إلى هذه المجموعة هي: ثقل وهيبة وموقف الدولة المرشحة على المسرح الدولي.. وأوضح أيضا أن البلدان التي تم قبولها في مجموعة البريكس، تشترك في رؤية مماثلة، تدافع بوضوح شديد عن عالم متعدد الأقطاب، وتعزز علاقات دولية أكثر ديمقراطية وتكافؤ، وتؤكد على الدور المتنامي للجنوب في آليات الحوكمة العالمية. تيزلفي نومغار ذلكني غر لكانون.

س ـ لماذا، بحسب رأيك، لا تزال الجزائر غير قادرة على الخروج من عنق الزجاجة؟

  ـ البلد مريض بحكامه، الدولة الجزائرية تشبه سلسلة جبلية بقمم متعددة، نعم يوجد أزمة ثقة وأزمة شرعية وأزمة تمثيل، سمها كما تشاء، جزائرنا العزيزة تفتقر لمشروع، إنها رهينة سلطة لا هم لها إلا بقاءها واستمرارها.

 الجزء الرئيسي من الخطاب والنشاط الرسمي، يخضع لحسابات سياسية وللمناورة والصراع على السلطة، آمال وانشغالات الجزائريين وضعت على الرف وفي الهامش، جماعات المصالح وزمر السلطة تخوض معارك تموقع داخلي. منذ 2019 تعاقب على إدارة شركة سوناطراك أربعة مديرين عامين، وعلى مؤسسة التلفزة الجزائرية سبعة مديرين عامين، وعلى المديرية العامة للضرائب خمسة مديرين عامين، وثلاث مديرين عامين على شركة الخطوط الجوية الجزائرية، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر.

 الجزائر أصبحت كرقعة شطرنج، تلعب بين من يريد الاستيلاء عليها ومن استولى عليها، فالاستيلاء عليها هو غاية كل منهما، الفاسد والمفسد، الراشي والمرتشي، يربطهما عقد، هو عقد الفساد والرشوة..

 بالنسبة للبديل، فلا يمكن انقاذ البلاد، إلا بالعودة للاقتراع العام الحقيقي، والذي يكون تتويج لممارسة الحريات العامة، في إطار عملية سياسية شاملة، لكل القوى الحية في البلاد، التي تجتمع حول عقد ديمقراطي. عكس ذلك فإن الانحطاط سيؤدي إلى الانهيار.

س ـ إذن، بحسب رأيك، فإن الحل مرتبط ارتباطا وثيقا بمسألة الحريات، وقد كنت أنت نفسك ضحية حرمان تعسفي من الحرية. فكيف تقيم الوضع في الجزائر منذ 2020؟

  ـ الحريات العامة صارت منعدمة منذ الحضر العنيف لمسيرات الحراك، السلطة قررت إحباط أي محاولة في صالح التغير الديمقراطي. قوانين مقيدة للحريات صدرت، والعدالة وضعت تحت الوصاية، والشرطة السياسية عادت إلى سابق عهدها في الاختراق والمراقبة والترهيب لنشر الخوف في المجتمع.

 أحزاب سياسية منعت من ممارسة نشاطها، جمعيات تم حلها، صحفيين سجنوا وطلاب عوقبوا بسبب مشاركتهم في الحراك، أستاذة جامعيون جروا في المحاكم ومخافر الشرطة، مواطنين بسطاء وجدو أنفسهم في سجن بسبب منشورات في وسائط التواصل الاجتماعي، القمع وصل لمستويات لا تطاق. من المنع من مغادرة التراب الوطني إلى مصادرة جوزات السفر مرورا بكل التدابير العقابية ضد المغترين، إجراءات كشفت النقاب عن طبيعة السلطة التي ظلت كما هي، رغم الوعود والتجميل والمزاعم الكاذبة.

 إن الأحكام القاسية التي صدرت في حق قاضي إحسان وإبراهيم لعلامي ومعتقلين آخرين، تشهد، ليس فقط على طبيعة السلطة فحسب، بل على عنادها المرضي في الحفاظ بقاءها في جو من الخوف والمنع.

س ـ كيف كانت تجربتك، وكيف عشت المضايقات القضائية التي تعرضت لها؟

 أنا متابع في أربع قضايا بتهم واهية، تتعلق ب الاعتداء على الوحدة الوطنية والتحريض على التجمهر وأعمال تلحق ضرر بأمن الدولة، وتقويض سمعة ومعنويات الجيش ...إلخ، وبالإضافة إلى هذه التهم الظالمة والتي لا أساس لها من الصحة، فأنا قد وضعت تحت الرقابة القضائية للمرة الثالثة على التوالي، مع المنع من المشاركة في النشاطات السياسية والندوات الصحفية والمثول الاجباري كل يوم إثنين للإمضاء داخل ثكنة تابعة للأمن الداخلي في دالي إبراهيم. وعلى رغم من كل هذه القيود المفروضة علي، فإني مازلت ثابت راسخا على هذه الأرض، أواصل النضال من أجل قناعتي، مستلهما الاقتباس الشهير للكاتب مولود معمري رحمه الله: " لا تستسلم أبدا حتى لو بدا لك أن كل شيء يسير ببطيء، لأن نفسا آخر يمكن أن يحقق النجاح، فالنجاح ما هو إلا الوجه الآخر للفشل، ولا يمكنك أبدا معرفة على أي بعد يوجد الهدف، والذي يمكن أن يكون قريب جدا في حين يبدو لك جد بعيد "

س ـ كلمة أخيرة..

 ـ وفي النهاية، وبعد أكثر من شهر من القصف الوحشي للسكان المدنيين في غزة، فإن العالم وبالأخص الغرب، كشف في وضح النهار عن عنفه وعن عنصريته ونفاقه.

أما الحكام العرب والذين لا طالما استخدموا القضية الفلسطينية في جميع دعايتهم السياسوية، أظهروا أنهم متواطئون مع المحتل الصهيوني وأنهم بلا شرف.

أما بالنسبة لرأي العام الذي تم تعبئته وحشده للتنديد بالجرائم المروعة المرتكبة ضد السكان المدنيين في غزة، فقد وجدوا أنفسهم عاجزين عن مواجهة الآلة القاتلة لهؤلاء النازيين الجدد من الصهاينة الحاقدين والمتعطشين للانتقام.

بدون توقيف فوري لهذه الوحشية التي لا سابق لها، فإن العالم سيغرق في الفوضى العارمة وفي فقدان الثقة مطلقا في قوانينه ومؤسساته.

يروق لي أن أكرر ثلاثة اقتباسات جميلة للمعارض المنشق عن النظام السوفياتي خلال السبعينات من القرن الماضي، الكاتب الكبير الراحل ألكسندر سولجنيتسين.

الاقتباس الأول يتطابق مع ما يحدث في فلسطين، كتب، “بمفارقة غريبة، كلما غرقت أكثر في هذا العالم الوحشي القاسي، كلما أنصت أكثر للقلة الذين حتى في مثل هذا العالم، يناشدون الضمير "

 الاقتباس الثاني، يتناغم مع ما يحدث عندنا، كتب، "ليس لدي القوة وأنا فرد صغير، لمجابهة أدلة الأكاذيب الشمولية الضخمة، لكن يمكنني على الأقل أن أضمن أن ألا أكون معبرا للأكاذيب".

وقال أيضا "حريتنا تبنى على ما لا يعرفه الآخرون عن حياتنا".