كتاب عربي 21

الفعل والخطاب.. حول خطاب الأمين العام لحزب الله

قال نصر الله إن الحزب منخرط بالفعل في المعركة- إعلام الحزب
الخطاب الذي ألقاه الأمين العام لحزب الله مساء الجمعة (3 تشرين الثاني/ نوفمبر) حول الحرب على غزة، وبعد شهر تقريبا من هذه الحرب، يمكن أن يُفصَل فيه النقاش على قضيتين، وإن كانتا من حيث الأصل قضية واحدة، ولكن الفصل الإجرائيّ بينهما ضروري لنقاش أكثر توازنا، يقطع الطريق على السجالات ذات الطبيعة الغرائزية، التي تنتهز الفرص للدفع بدعاية الحبّ أو الكراهية إلى الأمام، إذ المطلوب هو النقاش الذي يقصد بناء التصوّرات الصحيحة في هذا الهول العظيم المصبوب على غزّة، ويتهدّد الفلسطينيين في كلّ مكان. فاستغلال حدث كهذه الحرب؛ لتصفية الحسابات أو لترويج الدعايات من أخسّ ما يمكن، وكأنّه ثمّة فسحة في النفس للغفلة لحظة عن المحرقة التي تبتلع اللحم الحيّ كما تبتلع بيوت الغزّيين وأحياءهم ومخيماتهم ومدنهم كاملة.

يمكن إجرائيّا الفصل بين موقف الحزب وأدائه في هذه الحرب الأخطر على القضية الفلسطينية من بعد العام 1967، وبين الخطاب نفسه الذي أثار الكثير من النقاش، بقدر ما استحثّه من انتظار. ولعل البداية من هذا الخطاب أسهل، ثمّ تحويله إلى قاعدة للنقاش في أداء الحزب ومن خلفه المحور برمّته، الذي يؤسّس شرعيته في الخطاب العامّ على قضية مقاومة العدوّ الإسرائيلي، والهيمنة الأمريكية في المنطقة. وليس ثمّة حدث يجتمع فيه العدوان الإسرائيلي والأمريكي بنحو واضح يخلو من الالتباس منذ سنوات طويلة كهذه الحرب التصفوية على غزّة.

لم تكن مشكلة خطاب الأمين العام لحزب الله في عدم إعلانه الحرب على "إسرائيل"، فالحرب لا تُبدأ بالخطابات، والقراءة الدقيقة لأوضاع الحزب والظروف المحيطة به، لم تكن لتبشّر بمستوى أعلى من التدخل المُراد ساعتها، ولكنّ مشكلته في مسألتين فنّيتين، ولكنهما في الوقت نفسه جوهريتان من حيث موقع الخطاب وتحليله، وهاتان المسألتان هما، توقيته، والدعاية المكثفة له السابقة عليه
لم تكن مشكلة خطاب الأمين العام لحزب الله في عدم إعلانه الحرب على "إسرائيل"، فالحرب لا تُبدأ بالخطابات، والقراءة الدقيقة لأوضاع الحزب والظروف المحيطة به، لم تكن لتبشّر بمستوى أعلى من التدخل المُراد ساعتها، ولكنّ مشكلته في مسألتين فنّيتين، ولكنهما في الوقت نفسه جوهريتان من حيث موقع الخطاب وتحليله، وهاتان المسألتان هما، توقيته، والدعاية المكثفة له السابقة عليه.

من جهة التوقيت، فإنّ موقع الخطاب وتأثيره سيختلف تماما لو كان في بداية الحرب، أو بعد عشرة أيام مثلا على بدايتها، فإنّ مضمونه مفيد جدّا ساعتها لمستوى تدخل الحزب، ويعطي معنى أهمّ للغموض البنّاء وقيمة فعّالة لمقولة الاحتمالات المفتوحة، أمّا بعد شهر فإنّ المضمون بات أقرب إلى الطمأنة المجانية للعدوّ، وذلك لأنّ هذا المضمون بعد هذا الوقت الطويل وفي ظلّ المحرقة التي لم تتوقف عن الإزاحة السكانية بالقتل والتهجير والتدمير؛ لا يُقدّم إضافة نوعية لفعل الحزب الجاري في الميدان، ويلغي عمليّا حالة الغموض التي كان من أهمّ عواملها احتجاب الأمين العامّ مع استمرار المشاغلة في شماليّ فلسطين المحتلّة.

من جهة الدعاية، قدّم الحزب بين يدي الخطاب عددا من الفيديوهات القصيرة للأمين العامّ للحزب، أوحت بأنّ تحوّلا ما في مستويات التدخل سيرافق الخطاب، أو على الأقلّ سيشير إليه الخطاب، وتبع تلك الفيديوهات نشر رسالة من "المقاومة الإسلامية في لبنان" إلى المقاومة في فلسطين، وسبق ذلك كلّه عدّ شهداء الحزب في اشتباكات شماليّ فلسطين "شهداء على طريق القدس".

ولم يكن بمقدور أحد تجاهل تلك الدعاية، لأنّه لا يُتوقّع من الماكينة الدعائية للحزب، ولا من الأمين العام نفسه، انتهاج هذا الأسلوب من حثّ الترقب والانتظار، ما لم يتضمن الخطاب طرحا فارقا، وهو ما ساهم في رفع توقّعات الناس، حتّى أكثرهم تحفظا، الأمر الذي استدعى تاليا نقدا للحزب من بعض الكتاب والإعلاميين والسياسيين الذين هم من الأكثر ولاء له وثقة بأمينه العامّ، ممّا يعني أنّ هذا الأسلوب الدعائيّ ينبغي أن يكون حاضرا في التقييم لدى الحزب في فحص دوافعه ونتائجه.

موقع الخطاب وتأثيره سيختلف تماما لو كان في بداية الحرب، أو بعد عشرة أيام مثلا على بدايتها، فإنّ مضمونه مفيد جدّا ساعتها لمستوى تدخل الحزب، ويعطي معنى أهمّ للغموض البنّاء وقيمة فعّالة لمقولة الاحتمالات المفتوحة، أمّا بعد شهر فإنّ المضمون بات أقرب إلى الطمأنة المجانية للعدوّ، وذلك لأنّ هذا المضمون بعد هذا الوقت الطويل وفي ظلّ المحرقة التي لم تتوقف عن الإزاحة السكانية بالقتل والتهجير والتدمير؛ لا يُقدّم إضافة نوعية لفعل الحزب الجاري في الميدان، ويلغي عمليّا حالة الغموض
الإشارة إلى الدعاية التي سبقت الخطاب، تقود إلى المضمون الذي يبدو أنّه في القدر الأكبر منه موجّه لجمهور الحزب، إذ قدّم أمينه العامّ شرحا مفصلا لتدخل الحزب، من حيث التوقيت والمستوى والفاعلية بالرغم من عدم علمه المسبق بالحدث، وهو ما يعني أنّه لم يتخلّف عن نصرة المقاومة في غزّة في حدود ما تسمح به قراءته الاستراتيجية للظرف المحيط به، إلا أنّ هذا المضمون يفقد أهمّيته، مرّة أخرى، بسبب التوقيت، فكل ما قيل عن مشاغلة فعّالة في شماليّ فلسطين حجزت قدرا مهمّا من عداد جيش العدوّ وعديده سيكون مفهوما بداية الحرب، لأنّ السؤال بعد شهر لن يكون عن حصول المشاغلة المعلومة، بل عن أثرها في إضعاف العدوان على غزّة، لأنّ الأمر بات في المجازر المفتوحة وعمليات الإبادة والتهجير، وما يمكن أن يفضي إليه ذلك من مخاطر تصفوية، أو في أقلّ تقدير إخراج قطاع غزّة من قدرته على إدارة مقاومة فعّالة في المنطقة لسنوات طويلة قادمة.

في المضمون سوى ذلك، مما يُناقش أيضا المقارنة بين حرب تموز 2006 وهذه الحرب على غزّة، فدون أدنى خلاف حول موقع الإرادة والصبر في حرب كهذه، فإنّها مختلفة في الجوهر من حيث افتقاد المقاومة والشعب في غزة للعمق الجغرافي، فالنار والقتل والتهجير والتدمير؛ كل ذلك وأكثر يلاحق الناس في القطاع كلّه، والناس محاصرون بشربة الماء وحبة الدواء ولقمة الغذاء، بينما كان لبنان كلّه عمقا لبيئة الحزب وحاضنته الاجتماعية في حرب تموز، فضلا عن سوريا، وفضلا عن قدرات الإمداد التسليحي من سوريا وإيران، المنعدمة في غزّة التي يُصنع فيها السلاح محلّيّا ويعتمد فيها المقاتل على قذائف فاعليّتها من مديات محدودة للغاية.

لا يعني نقد الخطاب من جهة توقيته (حتى نقد المضمون في جانب منه متعلق بالتوقيت)، أنّ المطلوب هو فتح حرب إقليمية، فالمخاوف والمحاذير والحسابات معروفة، ومن غير المضمون أن تكون هذه الحرب في صالح القضية الفلسطينية أو الفلسطينيين في غزّة الآن، فهذه الحسابات كلّها مقدّرة، لكنّها في المقابل تطرح أسئلة حول إن كان هذا هو مستوى الفاعلية الوحيد الممكن للمحور في حرب تكاد تكون وجودية كهذه،
هذا الاعتبار تحديدا، أي الظرف الخاص بغزة، الذي يجعل أي معركة يخوضها القطاع مختلفة تماما عن حزب الله، هو ما يطرح الأسئلة بقوّة حول تكامل المحور وأهدافه الواحدة وتوزيع الأدوار بين أطرافه، إذ يتحمل قطاع غزّة الكلفة الأكبر لمقاومة العدوّ، أو وحده من يكاد يتحمل هذه الكلفة، وهو ما يقود إلى موضوع آخر في المضمون، وهو أنّ الصراع مع هذا العدوّ يُحسم بالنقاط، وأنّ أعداءه لم يَجْهَزوا بعد للمعركة الفاصلة، وهو كلام صحيح يستوجب الاتفاق معه تماما، والاختلاف مع الكثير من التصوّرات التي تلحّ على إمكان التحرير القريب وتستدعي بعض التفاسير لمفهوم "وعد الآخرة" القرآني، إلا أنّ هذا الاتفاق لا يُنسينا أحاديث سابقة للأمين العامّ للحزب حول تحرير الجليل وإرجاع "إسرائيل" إلى العصر الحجري وضرورة أن يكون للمحور موقف قوي مما يجري في القدس. وليست التصريحات الإيرانية حين السعة مختلفة عن ذلك، إلا أنّ ثمّة تحولا وقت الضيق، كهذه الحرب، نحو تعبيرات أكثر تواضعا عن المواقف والقدرات.

لا يلغي ذلك أهمية ما يقوم به الحزب الآن، فالحديث هو عن اشتباك بالنار ودفع تضحيات، ولا يعني نقد الخطاب من جهة توقيته (حتى نقد المضمون في جانب منه متعلق بالتوقيت)، أنّ المطلوب هو فتح حرب إقليمية، فالمخاوف والمحاذير والحسابات معروفة، ومن غير المضمون أن تكون هذه الحرب في صالح القضية الفلسطينية أو الفلسطينيين في غزّة الآن، فهذه الحسابات كلّها مقدّرة، لكنّها في المقابل تطرح أسئلة حول إن كان هذا هو مستوى الفاعلية الوحيد الممكن للمحور في حرب تكاد تكون وجودية كهذه، ومن ثمّ يقود ذلك إلى نقاش أوسع حول المحور وخطاباته المعلنة وأهدافه وطبيعة العلاقات البينية بين أركانه وحقيقة الأدوار المطلوبة من كلّ طرف فيه وبعض ما جرى سابقا بين هذه الأطراف، وقدر من هذا قد يصلح النقاش فيه أثناء الحرب، وبعضه يجب النقاش فيه بصراحة أكبر بعد الحرب.

twitter.com/sariorabi