كتب

سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي.. من أجل مراجعة نقدية لأصول الفقه.. قراءة في كتاب

يدعو الكاتب حمادي ذويب، الباحثين إلى المضي قُدمًا نحو التجديد في أصول الفقه، فمن غير ذلك سيظل الفكر الإسلامي يدور في حلقة مفرغة.
الكتاب: "مراجعة نقدية للإجماع بين النظرية والتطبيق"
الكاتب: حمادي ذويب
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة 2013.


إن دراسة أصول الفكر في واقعنا الحديث لم تفقد مشروعيتها، بل لعل هذه المشروعية تأكدت، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لأنها أضحت في مختلف وجوه الحياة في المجتمع الإسلامي، أدوات توظف لتحقيق غايات دنيوية مختلفة، بعضها إيجابي وبعضها سلبي.

في هذا الإطار، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كتاب "مراجعة نقدية للإجماع بين النظرية والتطبيق"، لحمادي ذويب، أستاذ الحضارة والفكر الإسلامي، في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، والحاصل على دكتوراه الدولة عن أطروحة بعنوان "أصول الفقه وصلتها بالواقع التاريخي".

يدرس الكتاب موضوعًا مهمًّا من موضوعات أصول الفقه الإسلامي، وهو الإجماع: كيف نشأت سلطته، ومواقف الفقهاء، والمفكرين المسلمين من حجيته، مع محاولة نقد أسسه على قاعدة مواجهة الوظائف السياسية للإجماع، ومراجعة وظائفه الاجتماعية أيضًا.

يقدّم الكتاب نقدًا جريئًا للإجماع على قاعدة العودة إلى مواقف منهجية، ومرجعيات إسلامية انتقدت وظيفة الإجماع السياسية، والاجتماعية. وهو لا يسعى من خلال هذه "المراجعة" إلى إرساء أيديولوجيا معينة، بل إلى المشاركة في إرساء منهج يسائل الحقائق والمسلَّمات، ويستفيد من المكتسبات العلمية، والمنهجية الحديثة.

حسنًا فعل، ذويب، حين سعى لاستخدام مصادر أصولية، على غرار "تقويم الأدلة للدبوسي" (ت 430 هـ)، و"الوصول إلى الأصول" لابن برهان الحنبلي (ت 518 هـ)، ولم يعتمد في بحثه على مدونة تقليدية تنحصر في عدد معين من الكتب.

في الفصل الأول "مراجعة سلطة الإجماع في الفكر الإسلامي من خلال بعض الاتجهات والأعلام" خاض، المؤلف، في دراسة نماذج من المذاهب والفرق، الذين راجعوا سلطة الإجماع مراجعة نقدية، فنظر، في المحور الأول، في موقف القرآنيين القدامى من الإجماع، ثم ركز النظر على نقد المعتزلة القدامى، أي معتزلة القرن الثالث للهجرة، لحجّية الإجماع، ساعيًا إلى تبيّن الأسس النظرية التي عضدوا بها آراءهم ودوافعهم. في المحور الثاني، توقف، الكاتب، عند بعض تجليات مراجعة الإجماع في الفكر الإسلامي الحديث، على غرار مواقف بعض علماء الهند، وموقفي محمد توفيق صدقي، المصري، وعبد الحميد الزهراوي، السوري.

سعى هذا الفصل إلى انتقاء بعض المحطات المهمة في تاريخ نقد نظرية الإجماع ودراستها. وما يمكن استخلاصه من هذه القراءة أن الفكر السني، وإن كان حاضرًا في مستوى النقد الجزئي لأدلة إثبات الإجماع، فإنه كان غائبًا على صعيد إنكار سلطة هذا الأصل الثالث من أصول التشريع، بحسب الترتيب السني. وهذا الغياب يخبر عن وعي ممثلي الفكر السني بأن كل قطع مع الإجماع يعني الخروج عن صف أهل السنة.

لم يكتف، الكاتب، بتحليل أطروحات منكري الإجماع، وإنما تطرق، أيضًا، إلى آراء مثبتييه من القدامى والمحدثين، الذين آثروا المحافظة على سلطته، مع إدخال تغييرات نقدية على بعض مقومات النظرية.
آثر، الكاتب، في الفصل الثاني، "مراجعة مفهوم الإجماع وأسسه النظرية" التوقف عند، مسألتين أساسيتين، من المسائل التي بنى عليها مراجعو الإجماع وناقدوه مواقفهم، وهي مفهوم الإجماع، وأسانيد سلطة الإجماع. ولم يكتف، الكاتب، بتحليل أطروحات منكري الإجماع، وإنما تطرق، أيضًا، إلى آراء مثبتييه من القدامى والمحدثين، الذين آثروا المحافظة على سلطته، مع إدخال تغييرات نقدية على بعض مقومات النظرية.

توسع، الكاتب، في أمر، رأى أنه قد لا يستسيغه كثيرون من المؤمنين بقدسية الإجماع وبسنّيته، وهو النقد السنّي الكلامي الأشعري لأدله إثبات سلطة الإجماع. ولكنه أوضح أن "الغاية من هذا النقد لم تكن إسقاط حجية الإجماع، بقدر ما كانت الغاية منه مراجعة تصور الإجماع وأسانيده، واقتراح بدائل ومرتكزات جديدة." ص (72)

في إطار سعيه لدراسة القسم التطبيقي المتعلق بوظائف الإجماع، خصص، الكاتب، الفصل الثالث "مراجعة وظائف الإجماع السياسية"، لدراسة مركزية الإجماع في نظرية الحكم السنية. فتوقف، في المبحث الأول، عند توظيف الإجماع لتبرير شرعية نظام الحكم السني، وسعى إلى مقاربة مسألة وجوب قيام سلطة تنظم المجتمع، كما تطرق إلى السياق التاريخي الذي برز فيه استخدام الإجماع في النظرية السياسية السنية.

عرض، ذويب، في المبحث الثاني، توظيف الإجماع لتبرير طاعة الحكام، حتى لو كانوا جائرين، أو مغتصبين للسلطة. واستعرض بعض أقوال العلماء التي تعضد هذا الإجماع، كما نظر في غايات هذا الموقف، وصلته بالسياق التاريخي.

أما المبحث الثالث، فقد تطرق فيه، الكاتب، إلى صلة الإجماع بالحرية، ليبين إدراك ممثلي حركة تصحيح الإجماع، ومراجعته إلى ضرورة إعادة النظر في دور الإجماع في مجال حرية الاجتهاد من جهة، والحرية السياسية من جهة أخرى. وقد سعى، ذويب، إلى مزيد من التعمق في فهم طبيعة الصلة بين الإجماع والحرية، من خلال نموذج بعينه، هو الإجماع على قتل المرتد.

تطرق الفصل الرابع "مراجعة بعض وظائف الإجماع الاجتماعية" إلى بعض المسائل الإجتماعية التي اعتمد عليها الإجماع تأصيلًا لشرعيتها، على غرار مسألة تعدد الزوجات، وحجاب المرأة، وختان الإناث، وتولي المرأة المناصب القيادية. وقد حاول، المؤلف، التأكد من وجود إجماع كلي على هذه القضايا، فتبين له "أن في العصور القديمة أو في العصر الحديث، سواء داخل الفكر السني أو خارجه، إشارة إلى أنها مجرد إجماعات مبنية على الاجتهاد، أو على النصوص قابلة للتأويل، أو لإعادة النظر في ضوء ما برز من جديد في العلم أو في المجتمع". ص (217)

لم يقتصر الفصل على القضايا المتعلقة بالمرأة، باعتبارها فئة من فئات المجتمع، وإنما تطرق، بإيجاز، إلى مسألتين تتعلقان بتوظيف الإجماع لتحريم عادتين اجتماعيتين: التدخين واستهلاك المخدرات. وأشار المؤلف في هذا الصدد إلى أن الإجماع، في هاتين المسألتين، هو مجرد موقف تبناه عدد مهم من علماء الدين، لا جميعهم، إن قديمًا أو حديثًا.

حاول، الكاتب، من خلال الفصل الخامس "توظيف الإجماع لتحريم بعض العادات الاجتماعية"، إلقاء مزيدًا من الأضواء، على بعض السمات التي وجدها في المباحث السابقة في الكتاب، النظري منها والتطبيقي. وقد اختار الكاتب، ثلاث خصائص، رأى أنها من أهم ما يميز نظرية الإجماع، وهي الماضويّة، والمركزية، والإقصاء.

برز إنكار الإجماع ونقده منذ أقدم العصور، ولم يؤد إلى اضمحلال الدين، بل على العكس من ذلك، أفضى إلى جدل واسع ونقاش عميق بين المذاهب والفرق الإسلامية، وهو ما أغنى الفكر الإسلامي بطائفة من البراهين متنوعة، وآليات خطابية وحجاجية متعددة. وقد سعى، ذويب، إلى إبراز تأصل المراجعة والنقد لعلم أصول الفقه وقضاياه، إن داخل الدائرة السنية أو خارجها. ورأى أنه علامة صحية تُبرز أن الفكر الإسلامي كان فكرًا حيًا يتفاعل مع بيئته، ويتجاوز أحيانًا سلطة التقليد والسلف.

برز إنكار الإجماع ونقده منذ أقدم العصور، ولم يؤد إلى اضمحلال الدين، بل على العكس من ذلك، أفضى إلى جدل واسع ونقاش عميق بين المذاهب والفرق الإسلامية، وهو ما أغنى الفكر الإسلامي بطائفة من البراهين متنوعة، وآليات خطابية وحجاجية متعددة
يتفق ذويب مع من يرى أن الإجماع مجرد آلية من آليات الوحدة، هدفها الأساسي درء الانقسام إلى الحد الذي انتهى معه الفقهاء إلى اعتبار الحقيقة مطلقة، لا تحتمل النسبية أو الخطأ. وكان من الممكن للإجماع أن يكون إيجابيًا لو كان عامل صهر لكل فئات المجتمع، وعنصرًا من عناصر التآلف والتوحد بين مختلف أصناف العلماء، لكن غاياته العامة تغلبت عليها المصالح الفئوية، والمذهبية فأضحى سلاحًا يقع إشهاره في وجه كل مخالف. ص (274)

في خاتمة كتابه، أشار، ذويب، إلى جهود المجددين، وسعيهم، لتطعيم الإجماع بمكتسبات معرفية ومنهجية حديثة. حيث يرى، الكاتب، أنه ليس هناك خيار أما المعرفة الدينية غير أن تتزود من مبادئ الإبستيمولوجيا والأنثروبولوجيا، وعلم اللغة، وعلم النفس، وغيرها من العلوم، "حتى تتجدد أطروحتها ولا تبقى على هامش الثورات العلمية". ص (276)

وأخيرًا، يدعو، ذويب، الباحثين إلى المضي قُدمًا نحو التجديد في أصول الفقه، فمن غير ذلك سيظل  الفكر الإسلامي يدور في حلقة مفرغة.

وبعد، يحسب للكاتب أنه اختار أن يكون في غير دائرة الأكثرية، التي تكتفي بطمأنينة الاعتقاد بسلطة الأصول والقواعد التي نظر لها الأصوليون منذ قرون. بل سعى لاتخاذ منهج نقدي جريء للتراث، سبقه إليه أعلام كبار في تاريخنا الإسلامي القديم، وأستأنفه فريق من العلماء المصلحين في العصر الحديث، الذين أدركوا أنه لا خروج من وضع التخلف الحضاري، إلا من خلال مراجعة نقدية صريحة، وجريئة للفكر الإسلامي، وما أنتجه من علوم.