بورتريه

سليمان الحلبي.. الطالب الذي أفشل الحملة الفرنسية وأعدم بالخازوق

عربي21
في الوجدان والقصص الشعبية هو بطل عربي شجاع لم يعجبه احتلال الفرنسيين مصر فقتل قائد الحملة الفرنسية، لكن روايات أخرى تحاول وصفه بأنه "قاتل مأجور".

كثير من الكتاب والباحثين يعتبرونه عثماني الهوى كان يرى بهذه المهمة واجبا وطنيا وقوميا، ونظر إلى الفرنسيين باعتبارهم غزاة، وأن ما قام به له علاقة بالثورة الشعبية ضد الاحتلال الأجنبي، ولم يكن مجرد اغتيال سياسي لتحقيق مكاسب مادية.

وفي جميع التحليلات فقد أسهمت عملية الاغتيال في تمهيد الأرضية لانسحاب القوات الفرنسية من مصر.

تعود أصول سليمان الحلبي المولود عام 1777 في حلب السورية، لأب كردي متدين عمل في مهنة بيع السمن وزيت الزيتون في منطقة عفرين في ريف حلب شمال سوريا، حيث درس سليمان العلوم الابتدائية الدينية.

أرسله والده إلى مصر ليكمل تعليمه الشرعي في الأزهر ومكث فيه ثلاث سنوات عاد بعدها إلى بلدته. ثم قرر أن يعود إلى مصر من جديد بهدف قتل القائد الفرنسي الجنرال جان كليبر، فسافر من حلب إلى القدس ثم إلى غزة التي اشترى منها السكين التي سينفذ بها العملية، وغادر في قافلة صابون ودخان، وما إن وصل إلى القاهرة حتى ذهب إلى الأزهر، ولم يخف نواياه عن رفاقه.

وكان قائد الحملة الفرنسية على مصر نابليون بونابرت قد أعلن سرا عن عودته إلى فرنسا متنازلا عن حلم تأسيس "إمبراطورية الشرق" بعد عام واحد من هزائم عسكرية متتالية دفعته إلى ترك قيادة الحملة للجنرال كليبر الذي بطش بالمصريين وقمع انتفاضاتهم بعنف وقوة.

سعى كليبر للتغلب على الصعوبات المالية والعسكرية والسياسية التي خلفها بونابرت، وأصبح موقفه قويا وشديد الحصانة على الجبهتين الداخلية والخارجية وبشكل خاص بعد انتصاره على العثمانيين في معركة "هليوبوليس" وإخماده انتفاضة القاهرة الثانية.

 وبعد تتبعه تحركات كليبر لما يقرب من الشهر، وحين كان كليبر ومعه كبير المهندسين بالبستان بداره في حي الأزبكية مقر القيادة العامة بالقاهرة، تنكر سليمان الحلبي في هيئة متسول ودخل عليه في حديقة قصره يوم 14 حزيران/ يونيو عام 1800، وشده بعنف وطعنه 4 طعنات متوالية أردته قتيلا، وحين حاول كبير المهندسين الدفاع عن كليبر طعنه أيضا ولكنه لم يمت، فاندفع جنود الحراسة الذين استنفرهم الصراخ فوجدوا قائدهم قتيلا.

 واختبأ سليمان في حديقة مجاورة إلى أن أمسكوا به ومعه الخنجر الذي ارتكب به الحادث، وامتلأت الشوارع بالجنود وتصور الفرنسيون أن عملية الاغتيال هي إشارة لبدء انتفاضة مصرية ثالثة.

وحقق مع سليمان الحلبي وهو تحت التعذيب الشديد لمعرفة من معه من مشايخ الأزهر الذين حاولوا ثنيه عن الأمر دون إبلاغ السلطة الفرنسية.

وتبين من التحقيق عدة روايات حول سبب قتل كليبر.

يحكي المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أن السبب الذي دفع الحلبي إلى قتل كليبر هو أن "آغاوات الإنكشارية أذاعوا بين الناس أن من يقتل قائد الحملة الفرنسية سيكون مقدما في الجيش العثماني فتطوع الحلبي لها".

ويذكر الفرنسيون في رواياتهم عن القضية أن والد الحلبي "كان ملزما بدفع ضرائب كثيرة، فاستنجد الحلبي بأحد ضباط العثمانيين لإنقاذ والده، لكن الضابط طلب منه أن يقتل كليبر مقابل رفع الديون والضرائب عن والده" وهذا ما يرد في النسخة العربية لمحاكمة كليبر، والتي جاءت تحت اسم "مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كليبر".

ولكن هناك رواية أخرى وهي الأكثر شيوعا تقول إن السبب الأساسي لرحيل الحلبي إلى القاهرة وقتل كليبر هو الجهاد، لأنه كغيره أراد الدفاع عن البلاد العربية ضد الحملة الفرنسية التي ارتكبت جرائم ومجازر في مصر وحيفا ويافا، وذلك عند سير الحملة نحو سوريا لاحتلالها وإخفاقها في هذا المسعى، وتحديدا حين أمن نابليون أهل عكا على أرواحهم لكنه أخلف وعده وفتك بهم بعد استسلامهم.

بعد انتهاء التحقيق السريع مع الحلبي صدر قرار من الجنرال مينو الذي تولى القيادة بعد كليبر بتكليف محكمة عسكرية لمحاكمة الحلبي، وحكموا عليه بحرق يده اليمنى وبعدها يرفع على "الخازوق" حتى تأكله الطيور.

وقبل تنفيذ الحكم تقرر قطع رؤوس رفاقه الأزهريين الذين كان يقيم معهم أولا وأن يشهد سليمان إعدام رفاقه ممن عرفوا أمره ولم يبلغوا الفرنسيين بخططه، وبعد قطع رؤوسهم أحرقت جثثهم.

 ثم جاء دور الحلبي الذي حرقت يده اليمنى ثم أرسل إلى الخازوق في 17 حزيران/ يونيو عام 1800 وردد الحلبي الشهادتين وآيات من القرآن الكريم، وظل على تلك الحال أربع ساعات، حتى جاءه جندي فرنسي مشفقا لحاله فأعطاه كأسا ليشرب منه معجلا بذلك بموته، وفقا للمؤرخ الفرنسي هنري لورنس في دراسته "الحملة الفرنسية على مصر وسوريا".

ترك جثمان الحلبي أياما عدة تنهشه الطيور الجوارح والوحوش الضواري، ثم عادوا إلى الرأس فقطعوه وأرسلوه إلى متحف كلية الطب بالعاصمة الفرنسية باريس.

ومع خروج الحملة الفرنسية من مصر فإنه تم أخذ رفات كليبر وسكين سليمان وجمجمته إلى فرنسا، حيث علقت جمجمة كليبر باعتباره بطلا وأسفل منه جمجمة الحلبي باعتباره مجرما.

ورغم مرور كل تلك السنوات فلا يزال الحلبي في ذاكرة الكثيرين، وقد جمع السوريون والمصريون التوقيعات الشعبية لإرسالها إلى الحكومة الفرنسية مطالبين بعودة رفاته الذي حملته القوات الفرنسية معها إلى باريس، ولم تستجب فرنسا للطلب فبقي رفات سليمان الحلبي معروضا في متحف الإنسان في باريس لسنوات.

وقد أطلقت حملة مصرية ودولية من أجل استرداد جمجمته ورفاته لدفنهما بشكل مشرف يليق به.

وتكريما له أنجزت الدراما العربية مسلسلا تلفزيونيا من إنتاج عام 1977 كتب نصه محفوظ عبد الرحمن وأخرجه عباس أرناؤوط، وقام بأدواره الرئيسية: أحمد مرعي وأحمد خليل ورشوان توفيق ومختار أمين.

وتناول الكاتب المصري ألفريد فرج، بطولة الحلبي، من خلال مسرحية عام 1965، أخرجها للمسرح عبد الرحمن الزرقاني وعرضتها فرقة المسرح القومي عام 1965-1966 ببطولة محمود الحديني وسهير البابلي. وأطلق اسمه على أحد أحياء مدينة حلب.

ورغم الروايات المتعددة حول دوافع اغتياله للجنرال الفرنسي فقد احتل الحلبي مكانة البطل في المخيلة العربية، ويقول الطبيب الفرنسي دومينيك جان لاري، الذي شهد عملية الإعدام، في كتاب صدر عام 1803: "إن الشاب الحلبي لم يتخل عن وقفته الشامخة حتى مصرعه".