تقارير

ما مساحة التخييل في إنتاج الشخصيات والأحداث التاريخية بمسلسل "رسالة الإمام"؟

ما هي مساحات التخييل في الحبكة الدرامية المسموح بها في إنتاج الشخصيات والأحداث التاريخية خاصة ما يتعلق منها بالجانب الديني؟ (فيسبوك)
أحدث مسلسل "رسالة الإمام" الذي بُثت حلقاته على قنوات مصرية في شهر رمضان الفائت ضجة كبيرة، لاحتوائه على أخطاء فقهية ولغوية وتاريخية كثيرة، شوهت صورة الإمام الشافعي وأساءت له، ما أثار حفيظة الكثيرين الذين هاجموا فريق إنتاج المسلسل وكتابته وتمثيله.

وكان لافتا في دفاع فريق إنتاج المسلسل قولهم إن العمل يقدم "أحداثا تاريخية لكن برؤية درامية" ما يعني عدم الالتزام بتوثيق الأحداث التاريخية كما هي ثابتة ومدونة في المراجع التاريخية المعروفة، وتوسيع دائرة التخييل الدرامي بما يقدم رؤية درامية أكثر تشويقا وجاذبية.

ذلك الدفاع وتلك التبريرات تُثير تساؤلات حول مساحات التخييل في الحبكة الدرامية المسموح بها في إنتاج الشخصيات والأحداث التاريخية خاصة ما يتعلق منها بالجانب الديني؟ وهل يمكن ضمان التوازن بين الالتزام بالأحداث التاريخية الموثقة وبين متطلبات الإنتاج الدرامي بما يتطلبه من معايير فنية وتقنية تساهم في إنجاح العمل بصورة جيدة؟.

يتطلب إنتاج عمل درامي يعرض لسيرة شخضيات دينية أو تاريخية، أو يتناول أحداثا تاريخية الاستعانة بأساتذة متخصصين في التاريخ، وآخرين متخصصين في اللغة والتدقيق اللغوي، لمراجعة تلك الأحداث وتدقيقها من الناحية التاريخية، ولتدقيقها من جهة اللغة نطقا وأسلوبا، وكذلك لمراجعتها فقهيا من قبل فقهاء، وفق الكاتبة المصرية منى مصطفى.

وأضافت أنه "حينما يقع الاختيار على إنتاج مسلسل لشخصية دينية عظيمة كالإمام الشافعي مثلا، فهو ـ بلا شك ـ شخصية كبيرة ومؤثرة وهو إمام مذهب فقهي كبير متبوع، فلا بد أن يكون الثوب الدرامي واللغوي والتاريخي على مستوى الشخصية وعلمها ولغتها وفقهها، ويعبر عنها بمصداقية تامة".

وواصلت حديثها لـ"عربي21" بالقول إن "الحبكة الدرامية متاحة، ولا سقف لمساحتها إن كان الكاتب والممثل على قدر عال من الاحتراف الفني، فالحبكة الدرامية منبعها الأساسي خلجات النفس، فللمخرج أن يبِدع في إظهار الحزن والفرح كما يشاء إذ لم يشق أحد عن صدر الشخصية التاريخية، وللكاتب أن يجعل المشاهد يبكي أو يطرب ببراعة قلمه ودقة تأملاته".

وأردفت بأن "للكاتب أن يعيش بروح الشخصية وعقلها وآلامها وطموحاتها، ثم يرسم وجدانها وهمومها بقلمه، وليس بحشو مناقض للتاريخ، ولغة ركيكة، ثم يأتي بعد ذلك اختيار الممثل الذي يعيش السيناريو بروحه وعقله، ولا يكتفي بحفظ حروف النص".

ولفتت مصطفى الانتباه إلى نموذج الأديب السوري الشيخ علي الطنطاوي في كتابه "قصص من التاريخ"، إذ كان يأخذ حدثا واحدا موثقا من التاريخ، ثم ينسج حوله قصة كاملة ممتعة مؤثرة، وما كانت ريشته وقلمه (مؤثراته الدرامية) سوى خلجات النفس ومشاعرها، وفهمه لطبيعة الشخصية التي يرسمها، فالتوثيق التاريخي واللغة الصافية مع الحبكة الجيدة المؤثرة ليسا ضدين حتى يصعب اجتماعهما كما يتصور بعضهم".

من جهته قال الأكاديمي الفلسطيني، والناقد الأدبي، الدكتور رمضان عمر، إن "العمل الدرامي، مفهوم اصطلاحي يكتسب شرعيته حينما تكتمل فيه شروطه المعروفة التي تؤهله ـ فنيا ـ كي تصدق عليه هذه التسمية، ولا شكَّ أن كل عمل أدبي فني لن يكتسب تلك الميزة الوصفية دون أن يتمتع بجملة من الخواص الفنية الدرامية التي تشرعن له فنيته الدرامية".


                                               رمضان عمر.. كاتب وناقد فلسطيني

وأضاف لـ"عربي21": "غير أن تحويل أي عمل أدبي منجز إلى عملية درامية ـ وفق المفهوم الحديث للدراما ـ يحتاج إلى شروط أخرى متعارف عليها نقديا، ليس في عالمنا المشرقي فقط بل لدى نقاد الحداثة الأوروبيين أيضا، ذلك أن إعادة تحويل أو إنتاج أو إخراج أي حقيقة دينية أو أحداث تاريخية ـ تنتمي إلى حقائق زمانية ومكانية وعلمية ـ إلى عالم الدراما والتمثيل؛ سيحاط بعالم من القيود التي ستحد من مجال التخييل والتغيير أثناء عملية خلق الشخصيات الفنية وإخراجها دراميا إلى عالم المسرح الخشبي أو السينمائي".

وأردف بأنه "لن يستطيع أي فنان مهما تمتع بمؤهلات إبداعية وخبرة درامية؛ أن يقول لنا شيئا مخالفا لما أقرته الرواية التاريخية الموثوقة، لأن ذلك ـ قطعا ـ سيعدُّ تزويرا وافتراء، ولا يستطيع أيضا أن يضيف شيئا مخالفا للحقائق المتصلة بزمان ومكان وصفات تلك الشخصية، بل كل ما يستطيع فعله الكاتب أو المخرج ـ وهو يحاول إعادة إنتاج تلك الشخصيات التاريخية في إطارها الفني ـ أن يزيد جرعة الامتاع لدى متلقيه، وذلك برسم صور الشخصيات، وإخراج الأحداث الدرامية مخرجا فنيا ممتعا، إخراجا متخيلا في صورة قريبة أو مشابهة للحقيقة التاريخية لتلك الشخصية المعالجة".

ولفت إلى أن الكاتب يملك قوة تصويرية غير عادية تجعله قادرا على السفر بعيدا في آفاق عالم الشخصية، مفترضا حوارا ما جرى في إطار ما؛ لا يخرج عن الطبيعة المألوفة لهذه الشخصية، وسيعد هذا من قبيل إعادة تشكيل المعنى لا أكثر ولا أقل، ذلك أن بناء الشخصيات في الأعمال الدرامية يحتاج إلى صدقين لا تنازل عن أحدهما: الصدق التاريخي المشكل لما يمكن أن نسميه (بيئة الشخصية) وهو المكان، والزمان، وصفاتها المتمثلة في أبعادها المادية، والاجتماعية، والنفسية، والأخلاقية، وهذا الجانب لا جهد للمخرج فيه سوى احترافية الإخراج الفني".

وتابع: "أما الجانب الآخر فهو جانب يمكن لخيال الكاتب أن يسبح فيه، وهو الصدق الفني، أي احترافية استخدام التقنيات الفنية؛ من نحو حسن إدارة الحوار، وبنية الزمن الحكائي، وبنية الصراع، والعقدة والعبقرية في رسم صورة مشوقة للحل، وكذا رسم الشخصيات رسما سابحا في المتعة دون تشويه لحقائقها، وهنا مساحة واسعة يستطيع فيها الكاتب أو المخرج السينمائي إن أحسن استخدام أدواته أن يبدع دون أن يهدم عالم الحقائق الثابتة، أو تشويه شخصياته المنتقاة بعناية ودقة".

وفي ذات الإطار لفت الأكاديمي المغربي، الباحث في الفكر الإسلامي، الدكتور حفيظ هاروس إلى أن "مسلسل "رسالة الإمام" الذي يحكي الفترة الأخيرة من حياة الإمام الشافعي التي قضاها في مصر أثار جدالا واسعا، ووُجهت له انتفادات كثيرة بسبب اللغة التي غلبت على العمل الدرامي والتي لا تتناسب مع الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث المسلسل، وأيضا بسبب بعض الأخطاء التاريخية التي وقع فيها المشرفون على العمل، مثل لقاء الإمام الشافعي بالخليفة العباسي المأمون الذي لم يثبت تاريخيا وغير ذلك".


                                  حفيظ هاروس.. كاتب وباحث مغربي في الفكر الإسلامي

وأشار إلى أن "الدراما تقوم أساسا على التخييل، وهو الذي يمنحها الإبداع والتفوق، لكن التخييل في الأعمال الدرامية إذا تعلق بالأحداث والشخصيات التاريخية فإنه يطرح مشكلات جمة، خصوصا من وجهة نظر دينية وأخلاقية، ومن بين هذه المشكلات: تحريف الأحداث التاريخية، وإسقاط الواقع ونظرياته المعرفية على التاريخ، وإقحام القراءات التأويلية ذات الخلفيات السياسية والمذهبية، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وغير ذلك".

وردا على سؤال "عربي21" حول وقوع تلك المشكلات في مسلسل "رسالة الإمام"، ذكر هاروس أنه "كان له نصيب منها، مثل نسبة بعض أشعار المعاصرين للإمام الشافعي الشيء الذي يتعارض مع التوثيق التاريخي ومع حقوق الملكية الفكرية كذلك، وأيضا إضافة بعض الأحداث لإضفاء مسحة التسامح والانفتاح على شخصية الإمام من خلال مشهد معالجة الشافعي لزوجته عند طبيب مسيحي".

ورأى أن "وجود مثل هذه المشكلات يطرح بقوة مسألة التوفيق بين ضرورات الإبداع الدرامي، وبين الالتزام الصارم بتوثيق الأحداث التاريخية كما ثبتت في المصادر التاريخية الموثوقة، وفيما يظهر فالناس في هذه المسألة فريقان: فريق يدافع عن حرية الإبداع الدرامي، ويرى أن المعايير الفنية مقدمة على الصدقية التاريخية التي يمكن الرجوع إليها بسهولة في مصادرها".

أما الفريق الثاني، وفق هاروس "فيدافع عن أهمية المحافظة على أصالة الأحداث والشخصيات التاريخية، ويرى أن تزييف التاريخ، وتشويه الشخصيات المرجعية يؤدي إلى تحريف الذاكرة الجمعية للأمة" ذاكرا أنه يميل إلى أن "الصواب قائم على الجمع بين الرأيين، إذ إن تقديم عمل درامي فقير في الرؤى التخيلية، ويقوم على الالتزام الصارم بالأحداث التاريخية يخرج به عن حد الإبداع والجمالية الفنية".

وختم حديثه بالتأكيد على أن "تلك الرؤى التخيلية الإبداعية لا بد أن تكون محكومة بجملة من القيم والمعايير الأخلاقية النابعة خصوصا من التصورات الدينية والمسؤوليات القانونية، ومن هذه القيم تحري المصداقية التاريخية، واحترام الحقوق التي يضمنها الدين والقانون، وتجنب التأويلات الإيديولوجية المتعسفة، والنأي بالأحداث والشخصيات التاريخية المرجعة عن الصراعات السياسية".