نحن أمام موقفين متناقضين لشخصين يساريين من اعتقال راشد
الغنوشي رئيس حركة النهضة. الموقف الأول لصاحبه حمى الهمامي، الناطق باسم حزب
العمال، وهو شخصية معروفة على الصعيدين الوطني والدولي، وله تاريخ صراعي مع جميع
الحكومات التي تعاقبت منذ ستينيات القرن الماضي. ولا يزال حزبه معاديا للإسلاميين
بشكل راديكالي حتى اللحظة الراهنة، وكان يفترض أن يكون سعيدا باعتقال خصمه المتهم
بتهم عديدة، جعلت
اليساريين والقوميين يرفعون شعارا مشتركا في أثناء مسيراتهم وتجمعاتهم
"يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح". مع ذلك اعتبر الهمامي أن ما جاء
على لسان الغنوشي في الكلمة التي يلاحق من أجلها، ليست سوى وجهة نظر سياسية، ولا
علاقة لها بقاموس الإرهاب الذي عاد ليستعمل بكثافة خلال هذه المرحلة.
ولم يكتف رئيس حزب العمال بذلك، بل نشر نص
كلمة الغنوشي
في صحيفة الحزب، حتى يُبرز التلاعب الذي مارسته جهة الاتهام، حيث تم حذف بعض
الكلمات من أجل تغيير المعنى وإثبات التهمة على رئيس حركة النهضة. وقال الهمامي في
هذا الشأن؛ إن "الحقيقة مسألة أخلاقية"، مؤكدا أن حزبه "لا يكذب
حتى على عدوه، ولا يزور أقواله وأفعاله من أجل تشويهه وإدانته"، وهو موقف
سياسي سيحسب للرجل وسيسجل في رصيده.
في هذه المسألة بالذات يكمن الحجم الحقيقي للأزمة السياسية في تونس. كيف يقع الفصل بين الذاتي والموضوعي، وبين الحقيقة كما تحددها الوقائع والأحداث الصحيحة، وبين التأويلات الشخصية والحزبية والنفسية التي تكيف الوقائع حسبما تمليه الخصومة القائمة من أجل تصفية الحسابات السياسية والأيديولوجية؟
الشخص اليساري الثاني قيادي بارز لحزب الوطنيين
الديمقراطيين الموحد، وهو منجي الرحوي، الذي يقود حاليا جناحا داخل الحزب، ومتهم من
قبل خصومه بـ"التمرد والتقسيم بهدف التموقع داخل السلطة". هذا اليساري
الذي عُرف بعد الثورة بهجومه الكاسح على النهضة وقيادتها، نفى من جانبه أن يكون
راشد الغنوشي قد تم اعتقاله من أجل آرائه أو عقيدته السياسية، واعتبره سجين حق عام،
بحجة أنه متهم بالتحريض على "التقاتل بين
التونسيين"، معتمدا في ذلك على
ما ورد في التقارير الأمنية بالنسبة لقضية الحال.
وهو من الذين يعتقدون بأن الرئيس سعيد وفر فرصة تاريخية
لليسار عندما أقدم على إزاحة حركة النهضة من السلطة، وهو ما جعل البعض من
اليساريين مثل عبيد البريكي، الأمين العام لحزب تونس إلى الأمام، يصرح بأنه "آن
الأوان أن يتقاسم اليسار أهداف مسار 25 جويلية".
شتان بين الموقفين، رغم الانتماء إلى نفس الأيديولوجيا
ووحدة العدو، اختلف الرجلان في التقييم الأخلاقي والمبدئي، وفي الفهم الحقوقي لحادثة
اعتقال عدو مشترك، وفي هذه المسألة بالذات يكمن الحجم الحقيقي للأزمة السياسية في تونس. كيف يقع الفصل بين الذاتي والموضوعي، وبين الحقيقة كما تحددها الوقائع والأحداث الصحيحة، وبين التأويلات الشخصية والحزبية والنفسية التي تكيف الوقائع حسبما تمليه الخصومة القائمة من أجل تصفية الحسابات السياسية والأيديولوجية؟
نادرا ما احتكم المتصارعون على الحكم في تونس إلى أخلاقيات
الخلاف، مما جعل الكثير منهم يلجؤون إلى تبرير جميع الوسائل من أجل القضاء على
الخصوم، بما في ذلك اللجوء إلى الكذب والتلبيس وتلفيق الأدلة والتهم، من أجل التخلص
منهم وإرسالهم إلى ما وراء الشمس، رغم أن التجارب السابقة كشفت أن العديد ممن تورطوا
في مثل هذا السلوك، انقلبت المعادلة ليجدوا أنفسهم في السجن.
هناك إرادة سياسية من السلطة للتخلص من راشد الغنوشي،
لكن ما تنقصها حاليا الأدلة القطعة. كانت تظن بأنها تملك ذلك، لهذا
أقدمت على
اعتقاله، ثم اكتشفت بطلان ما لديها، فتطور أنصارها من جميع الاتجاهات لإخفاء
المأزق الرسمي، وذلك من خلال اللجوء إلى خطابات عدائية خالية أحيانا من حجة ودليل.
عند هذه النقطة بالذات، ينتهي الصراع السياسي المشروع، ويتحول المشهد إلى اضطهاد
خصم عبر وسائل الدولة، وعندها يصبح هذا الخصم في عيون الكثيرين "بطلا" و"ضحية".
توالت القضايا التي أحيل بسببها العشرات من السياسيين وغيرهم، ثم ثبت أن التهم التي وجهت إليهم باطلة، وتم إطلاق سراحهم دون اعتذار منهم. والأهم من ذلك، أن اعتقالهم لم يؤد إلى تغيير فعلي للواقع الراهن للمواطنين، حيث بقيت العوائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قائمة، إن لم تزد استفحالا، ثم تطوى تلك الملفات والقضايا، وتغيب عن الإعلام.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن الغنوشي،
فالقضاء العادل
والمستقل هو السلطة الوحيدة التي يمكن أن تثبت التهم الموجهة له أو تنفيها، إنما
اتخذنا من حالته مثالا للحديث عن أخلاقيات الصراع السياسي التي انهارت كثيرا، ويُخشى
أن تؤدي إلى ما لا يُحمد عقباه.
لقد توالت القضايا التي أحيل بسببها
العشرات من
السياسيين وغيرهم، ثم ثبت أن التهم التي وجهت إليهم باطلة، وتم إطلاق سراحهم دون
اعتذار منهم. والأهم من ذلك، أن اعتقالهم لم يؤد إلى تغيير فعلي للواقع الراهن
للمواطنين، حيث بقيت العوائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية قائمة، إن لم تزد
استفحالا، ثم تطوى تلك الملفات والقضايا، وتغيب عن الإعلام الذي يفجر قضايا أخرى
من نفس الطبيعة، ويشتغل على أشخاص آخرين توجه لهم تهم شبيهة، وتبقى قضاياهم معلقة
عدة أسابيع أو شهور.
هكذا تواصل طاحونة الهواء دورانها، دون الأخذ بعين
الاعتبار عامل الزمن ومصلحة البلد وبؤس المواطنين.