كلما استمعت إلى عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة
السوداني
وقائد القوات المسلحة السودانية، وهو يرغي ويزبد ليثبت أنه رجل دولة وجندي محترف،
استحضرت شيئا من شعر الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم: قال لك ثم الجهل مصيبة / مولف
ويا العيا (المرض) تركيبة / تشرب منها تعطش تاني / تعطش تشرب خمسة ف ستة / مية نار
لو طالت جِتة (جسم) / لازم تلحس أثمن حتة / يعني المخ يا خلق الله.
ولأن الطيور على أشكالها تقع، فقد التف حول البرهان نفر يضاهونه
جهالة وغباء، فقد عجز الرجل منذ أن قام بانقلاب في 25 تشرين أول/ أكتوبر من عام
2021 عن إقناع أي ذي عقل بقبول منصب رئيس الوزراء، ليقوم بتشكيل حكومة ذات حقائب
وزارية معلومة، بل لم يجد شخصا ذا سيرة سياسية محمودة يتولى الدفاع عنه في وسائل
الإعلام، فأتى بمستشاره الإعلامي العميد الطاهر أبو هاجة ليكون بوقا له، فإذا بأبو
هاجة هذا يصبح بوقا لنفسه، وانتشر وبائيا في وسائل الإعلام، وكلما فتح فمه أو شهر
قلمه أصاب البرهان في مقتل من غير قصد، فتم إسكاته، فجاء نفر من الجنرالات
المتقاعدين ولبسوا مسوح الخبراء السياسيين فأصبحوا مادة تندر في المجالس، بعد أن
اتضح أنهم عصاميون في جهلهم، أي يزدادون جهلا بمرور الزمن.
خلال الأشهر القليلة الماضية أعلن البرهان مرارا أنه عازف عن السلطة،
بل قام بالتوقيع على اتفاق مع قوى مدنية يقضي بأيلولة الحكم الى المدنيين، وكان
ذلك في حضور شهود إقليميين ودوليين، ثم بدأ يناور ويراوغ للتملص من الاتفاق، وكلما
استخدم كرتا حسبه رابحا خسر الجولة، فكان أن قال إن تنفيذ بنود الاتفاق رهن بدمج
"قوات الدعم السريع" في الجيش الوطني، ولتسويق هذا المطلب، أطلق أعوانه
من
العسكريين، وتحديدا شمس الدين كباشي وياسر العطا، اللذين أنعم عليهما بعضوية
المجلس السيادي، ليعتلوا المنابر ويرددوا مقولة أن الحكم المدني لن يأتي إلا بعد
دمج "قوات الدعم السريع" في الجيش الوطني.
وقبل أيام قليلة وقف البرهان مجددا أمام أهله في ولاية نهر النيل في
حفل للعرس الجماعي وردد نفس الموال عن "الدمج"، وإذا بمساعده ياسر العطا
يعتلي المنبر في ذات الولاية، وفي حفل عرس جماعي ليقول ما قاله سيده، وكان شمس
الدين كباشي وهو كبير الطواويس في المشهد السوداني قد ذهب إلى أهل منطقته في جنوب
كردفان ليردد ذلك الحديث ببغاويته المعهودة، غير أن ياسر العطا بز البرهان وكباشي
في ميدان الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء، وقال إنه لا يجوز أن يكون هناك جيشان
في بلد محترم.
البرهان الذي ارتضى لنفسه أن يكون وكيل أعمال إسرائيل في الخرطوم، يقتدي بشمشون التوارتي، ويعتزم هدم المعبد (السودان) عليه وعلى أعدائه (الشعب) إذا أحس بأنه بصدد فقدان السلطة.
والدعم السريع هذا مليشيا قبلية أنشأها جهاز الاستخبارات العسكرية
قبل عقدين من الزمان لتتولى قمع التمرد في إقليم دارفور، تحت قيادة آل دقلو، حيث
كان قائدها العام هو محمد حمدان دقلو (حميدتي) ونائبه أخوه عبد الرحيم، وبعد سقوط
حكومة عمر البشير في نيسان / أبريل 2019 أتى البرهان بحميدتي نائبا له في مجلس
السيادة، وظل يزعم هو وكبار الجنرالات أن تلك القوات تتبع له بوصفه القائد العام
للجيش، وأن من ينادون بدمجها في الجيش مغرضون يسعون إلى الوقيعة بين الجيش وتلك
القوات، ويتجلى الجهل والغباء عند البرهان في حسبان أنه وضع شرطا تعجيزيا لنقل
الحكم إلى المدنيين، بينما قرار الدمج في يد القيادة العسكرية والسياسية للسودان
وكلتا القيادتين بيد البرهان الذي يحسب أنه قادر على مواصلة الكذب والضحك على
الشعب، ويفترض أن الشعب لن يتساءل: ولماذا لا يتكلم البرهان عن مصائر نحو تسعة
جيوش تجوس أرض السودان، بل أنعم على بعض قياداتها مناصب رفيعة كاملة الدسم.
والسودانيون يرفعون حواجب الدهشة لأن البرهان يحاكم الآن قيادات
رفيعة في سلاح المدرعات السوداني بتهمة محاولة قلب نظام الحكم (نظام البرهان) في
أيلول (سبتمبر) 2021، فإذا بوقائع المحكمة ومن إفادات من أتوا بهم كشهود اتهام
تؤكد أن ما حدث هو أن قادة سلاح المدرعات ظلوا على الدوام يرفضون احتضان البرهان
لقوات الدعم السريع، وإجلاس قائدها نائبا له في القصر الجمهوري، وأن تحركهم
الموصوم بالانقلاب كان مجرد رفع حالة الاستعداد بعد رصد تحركات مريبة لقوات الدعم
السريع داخل الخرطوم.
ورغم أنه يعاني من الأمية بمعناها الواسع والعام، إلا أن حميدتي أثبت
أنه أكثر وعيا وذكاء من البرهان، وقال إن دمج قواته في الجيش الوطني منصوص عليه في
اتفاق نقل السلطة إلى المدنيين الذي قبل به البرهان وعليه لم يعد موضع نقاش: تقوم
حكومة مدنية ويحدث الدمج، وكان حميدتي من قبل يرفض هذا الدمج متعللا بأن قواته
ليست سرية أو كتيبة حتى يتم إلحاقها بالجيش، ومكمن الذكاء في هذا هو أن حميدتي صار
يراهن على القوى المدنية والشارع السياسي الرافض للحكم العسكري الذي هو جزء منه.
ولكن أن يكون شخص ما أكثر ذكاء من البرهان، ليس مدعاة للفخر
والتباهي، وقبول حميدتي بفكرة الجيش الوطني الواحد تشي بأنه إما أنه لا يدرك عواقب ذلك
عليه، أو أنه موقن باستحالة تطبيق الفكرة في ظل راهن الأوضاع الاقتصادية والأمنية
في السودان، فالدمج المنشود يعني أن حميدتي ونائبه الذي هو أخوه عبد الرحيم،
وكلاهما يحمل حاليا أعلى الرتب العسكرية عن غير استحقاق، سيفقدان المنصبين، لأنه
لا مكان في جيش نظامي لمدني يهبط بالمظلة ويخطف رتبة "فريق" ويضعها على
الكتفين، كما أن التخلي عن الدعم السريع ككيان عسكري مستقل يعني التنازل عن
الموارد الاقتصادية الضخمة التي جعلت من آل دقلو إمبراطورية مالية متناهية الكبر.
والبرهان الذي ارتضى لنفسه أن يكون وكيل أعمال إسرائيل في الخرطوم،
يقتدي بشمشون التوراتي، ويعتزم هدم المعبد (السودان) عليه وعلى أعدائه (الشعب) إذا
أحس بأنه بصدد فقدان السلطة.