اعترضتني في بداية إقامتي في أمريكا، منتصف الثمانينيات، مشكلتان "ثقافيتان". الأولى هي انعدام القهوة القوية الفوّاحة! قضية مصيرية ربما يأتي حديثها في فرصة قادمة. أما المشكلة الأخرى فهي أنه لم يكن في البلاد عهدئذ وجود لكرة القدم. كان الفقد مؤلما ولا عزاء باستثناء صفحات الرياضة في لوموند والشرق الأوسط اللتين لم يكن يقرأهما في مكتبة الكلية سواي. لهذا كانت العودة إلى أجواء
كرة القدم من ألذ مباهج الاستقرار في لندن. على أن مفاجأة طريفة حصلت لي عندما وجدت صدى لمواجع الفقد الكروي هذه عند مصدر فكري رصين.
القصة أن نيوزويك نشرت في 12 يونيو 2006، بمناسبة مونديال ألمانيا، مقالا يكشف فيه هنري كسنجر مبلغ غرامه بكرة القدم. قرأت المقال بفرح طفولي، متعاطفا مع الرجل لأنه شرح منذ البدء مدى الصعوبة التي كان يلاقيها في متابعة أخبار كرة القدم انطلاقا من أمريكا، وخصوصا أخبار البوندسليغا وفريق مسقط رأسه الألماني، غرويثر فورث (في الدوري الثاني). يكتب كسنجر بكل سلاسة، معملا فكره الليزري، المعهود في كتاباته السياسية، في تفاصيل اللعبة الشعبية المحبوبة لدى معظم البشرية. يبوح بأنه ليس في مأمن من "مزيج البؤس والرجاء الذي هو قدر كل مدمن على الكرة" ثم يقول: "إن المشاعر التي تثيرها الفرق الأثيرة، مقارنة بتلك التي تثيرها المنتخبات الوطنية، هي مثل نهير هادر مقارنة بشلالات نياغارا (..) في المنتخبات ليس ثمة هامش للخطأ أو لتأجيل العواطف. الفائزون أبطال؛ والمنهزمون يعاملون معاملة من وجه إهانة شخصية لكل مشجع (..)
التحكم في كرة بالقدمين في ملعب بطول 110 أمتار وفي مواجهة مرمى مقابل يقتضي مهارات مماثلة لفن الباليه. فالفرق التي تركز على البراعات الفردية، مثل البرازيل، تدهش المشاهدين بعبقرية العزف وسخاء اللعب. لكنها تصير أحيانا معجبة بفنياتها الفردية إلى حد أن تنسى تسجيل الأهداف فتغلبها الفرق الأقوى لحمة والأحكم إستراتيجية. وحدهم الأفذاذ، مثل مارادونا (..)، يستطيعون التسجيل بجهد شخصي بحت.
أما في معظم الأحوال فإن المباريات تكسب بالجهد الجماعي. وتكمن فتنة كرة القدم في التركيز الذي يكاد يكون فكريا والذي تحرك به أفضل الفرق الكرة في الملعب لحل لغز كيفية تمريرها بحيث تتجاوز أحد عشر منافسا يحق لأحدهم (الحارس) اعتراضها بيديه، بينما يتحرك الجانبان في أثناء ذلك كله بسرعة بالغة. وهذا ما يحول اللعبة إلى ضرب من التمرين الهندسي في محاولة العثور على مساحات مفتوحة غير محمية يمكن منها تسديد قذفات لا يعوقها عائق نحو المرمى. وينعم جنرالات الملاعب العظام مثل زين الدين زيدان وفرانز بيكنباور بالموهبة الخارقة المتمثلة في توزيع الكرة بين زملائهم على نحو يبدو ممتنعا على التصور في المجرّد، ولكنه بديهي الوضوح في التنفيذ. ذلك أن كرة القدم إنما هي التعقيد متنكرا في هيئة البساطة (..)
لقد شهدت سبعة نهائيات مونديال كان لكل منها دراما فارقة. كان الأول عام 1970 في مكسيكو حيث اكتشفت أسلوب الكرة البرازيلية الباهر (..) وكان المنتخب الهولندي عام 1974 رشيقا أنيقا هجومي الأسلوب، وكان ملهمه وقائده أحد أعظم العظماء طرا: يوهان كرويف (..) وفي 1978 وجدت هولندا نفسها مجددا في النهائي في بيونس آيريس أمام جمهور متعصب في تشجيعه للمنتخب المحلي. وفي مباراة كثيرة التقلبات تمكن الهولنديون في آخر لحظة من التعديل ضد منتخب أرجنتيني كان يجمع بين الجمالية البرازيلية وغريزة القتل الأوروبية. لكن مثلما وقع أربع سنوات قبلها، لم يصمد الهولنديون حتى النهاية وخسروا في الوقت الإضافي. وقد وفر النصر للأرجنتينيين واحة استراحة من التوترات المنذرة بالاحتراب الأهلي ومن القمع الوحشي الذي كان يمشط البلاد. فقد أسلمت بيونس آيريس نفسها طيلة 48 ساعة لاحتفالات عارمة صاخبة أخفت مرارة الانقسامات الوطنية. وفي 1982 وقعت الدراما قبل الختام. ففي ربع النهائي (..) تغلبت إيطاليا على أجمل المنتخبات البرازيلية لعبا على مر التاريخ بفضل إحدى هجماتها المعاكسة القاتلة، مغتنمة استهتار البرازيل التي كانت تلعب لتكسب، غير قانعة بالتعادل الذي كان يكفيها لبلوغ نصف نهائي لم يكن يفصلها عنه سوى دقائق".
رأيي أن كسنجر محقّ، لكنه مقتصد. ذلك أن الحقيقة في تمامها هي أن منتخب 1982 لم يكن أجمل المنتخبات في تاريخ البرازيل فحسب، بل إنه أجمل المنتخبات في التاريخ العالمي بإطلاق! أي نعم! أجمل المنتخبات الكروية على مر الدهور البشرية. أما الأوركسترا الهولندية التي أطربت عام 1974 وأدهشت، فقد عزفت سمفونية الارتقاء نحو المطلق: إرهاصا بما هو آت وتبشيرا بما هو أفتن.