يطرح السؤال
المعنون به المقال نفسه على كل حر أبي شريف آناء الليل وأطراف النهار، سواء أكان
مصريا أو مهتما بالكرامة والعزة الإنسانيتين؛ خاصة بعد أن شرفت ثورة 25 يناير
مصر
وسط بحار متلاطمة من المهيئات والمسببات الداخلية والخارجية، فقد تململت الولايات
المتحدة الأمريكية بخاصة والغرب بعامة من طول بقاء الرئيس الراحل المخلوع حسني
مبارك في الحكم لمدة تقارب 30 عاما، كما أن الكيان الصهيوني رأى أن الأخير قدم إليه
أفضل ما لديه ولا بد من تجديد العملاء وبالتالي الخدمات. وبقي الانتظار سيد
الموقف، فيما كان الشعب يغلي داخليا تحت قهر فساد النظام وبطش الأمن.
ولم يكن الجيش
أقل تململا من القوى الخارجية والشعب، فهو لا يحب أن يخضع للمدني جمال مبارك،
وتلاقى الجميع على "لحظة فارقة" في تاريخ مصر لكنها ليست عميقة للأسف، فغالبا
جاء رحيل خالد سعيد -رحمه الله- المُهين على يد داخلية الإسكندرية مؤذنا برحيل
مبارك، خاصة مع سريان رياح
الثورة التونسية وأحلام وروائح الياسمين في ظل واقع
بالغ المرارة والضراوة.
لكن "اللحظة
الفارقة" بوصف الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل -خفف الله عنه ورده سالما-
أعاقتها موانع استمرار؛ منها تجريف مبارك على مدار ثلاثين عاما لواقع ومستقبل
المصريين، وعدم رغبة الغرب والكيان الصهيوني في استيقاظ مصر من تخلفها، وعودة
مطامع بعض من القوى المفترض أنها وطنية والقديمة في السلطة، وتنازع واستبداد النخب،
وصبر الشعب المصري القصير فيما يتعلق بالثورة وإمكانية استمرارها حتى النجاح.
ملايين المصريين الذين صدّقوا أن الثورة اجتازت أهم عقباتها بعد 11 شباط/ فبراير أفاقوا أولا على فراغ هائل متمثل في حرية ضخمة عملاقة لا تتناسب مع سابق ما عانوه منذ 23 تموز/ يوليو 1952م، فكان أن فقدوا اتزانهم
وباختصار فإن
ملايين المصريين الذين صدّقوا أن الثورة اجتازت أهم عقباتها بعد 11 شباط/ فبراير
أفاقوا أولا على فراغ هائل متمثل في حرية ضخمة عملاقة لا تتناسب مع سابق ما عانوه
منذ 23 تموز/ يوليو 1952م، فكان أن فقدوا اتزانهم، وبقدر ما اكتملت -بحسب رؤيتهم- رياح
الحرية بمسيرة الديمقراطية القصيرة المخطط لها بعناية، وكانت أحداث محمد محمود 1 و2،
آلم الجميع انسحاب
الإخوان "الرسمي"، فشبابهم وعقلاؤهم شاركوا في
الأحداث المريرة دون إقرار الجماعة أو استئذانها؛ ولكن الحقيقة تخبر بأنهم بدأوا
من حينها مسيرة مفارقة ميدان التحرير ثم البحث عن غيره، فاستعدوا للانتخابات
البرلمانية التي كانت في 2012م، مفتتح حجر العثرة الرسمي في مسيرة إهلاك قوتهم
وإضعافهم وكذلك بداية إضعاف علاقتهم بالمصريين الوطنيين.
جاء الإمام
الراحل حسن البنا بمشروع لا يخلو من السياسة بأي حال، فقال بالتدرج في الإصلاح للعالم،
بداية من البيت للشارع للمدينة للمديرية ثم الدولة والسلطة المسلمة، وهو تصور لا
يخلو من مثالية للأسف بل من حماسة شباب، فقد كان -رحمه الله- في سن تعدى العشرين
ربيعا بأشهر لما أشهر الجماعة في عام 1928م، وقد لقي الله عام 1949م وهو في مفتتح
العقد الخامس من العمر فقط، وراح يقنن نظريا أن الجماعة لا علاقة لها بالأحزاب،
فيما يذكر في موضع آخر من "مذكرات الدعوة والدعاة" أن الإسلام عائد بعز
عزيز أو بذل ذليل، وهو ما يستند إليه أتباعه لتبرير مخالفتهم له في نظرية نبذه للسياسة،
بالإضافة لواقعة ترشحه للبرلمان عن "مديرية الإسماعيلية"، مسقط رأسه؛
لولا مساومة نظام الملك فاروق له بإلغاء تقنين الدعارة مقابل تنازله، لكن مقولة
الراحل قبيل استشهاده -وهو ما نرجوه له لصادق ومخلص مسيرته- بأنه يود لو عاد
للتربية في المسجد مجددا تمحو ما قال وسطر بل وما فعل من قبل.
أزال حب السلطة في
نفوس بعض أتباع البنا خاتمة نهجه ومسيرته العملية؛ فانساقوا -وفيهم حسن النية-
وراء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حتى كاد يفنيهم عام 1954م، ثم كرورا التجربة
دون أن يستفيدوا لا من سابقتها ولا من تجربة العشرية السوداء في الجزائر، ولا حتى
تجربة غزة المريرة، والأسوأ أن الجماعة لم تنظر حينما نزلت بثقلها في خضم ثورة 25
يناير في كونها إصلاحية لا ثورية.
وجاءت بدايات
الكارثة بإعلانها الترشح للرئاسة، وبداية خروج خلافاتها للعلن، فأفرادها في 2011م
لم يكونوا، وحتى على أعلى مستوى، بأفضل حالا منهم في 1949م حين مغيب البنا الأبدي.
وأزمة التربية كانت وما تزال واحدة من أعنف أزماتها، بدأت على يد المؤسس نفسه ولم
يستطع استدراكها واستمرت حتى 2011م بل حتى اليوم. ويبدو بوضوح شديد أن ترشح
الإخوان وفوزهم أرضى الغرب والكيان الصهيوني معا، فهم سيتخلصون من إحدى مؤسستي
الدولة -بعد الجيش- في صورة الجماعة، وكان أن ابتلع أنصارها الطُّعم حتى مستوى
المرشد الطبيب والعالم البيطري والأكاديمي محمد بديع -خفف الله عنه- وجاءت جهود
الراحل الرئيس محمد مرسي مهدرة في وسط أمواج التحديات الداخلية والخارجية المنفتحة
على بعضها، ولم يدرك الرجل عمق التحديات ولا الجماعة للأسف، ولا حتى تلاعب الجنرال
عبد الفتاح
السيسي بهم إلا في 2 من تموز/ يوليو 2013م، قبيل إعلان الانقلاب عليهم رسميا
بساعات.
وعلى نهج عدم
إدراك الحقائق نفسه ظهر انشقاق بعض من المصريين خلف الحالمين بتسلم السلطة من
المدنيين بقيادة "جبهة الإنقاذ المدعاة"؛ أو حتى المؤمنين بأن نسخة
الجيش الجديدة ستجيء بالعجب العجاب، عرفت البلاد الدماء بالمئات، ويُسأل في ذلك
الجنرال وأتباعه ثم الواهمون وأصحاب المصالح -للأسف- من قادة الجماعة الذين ظنوا
أن سياق 25 كانون الثاني/ يناير 2011م قابل للتكرار بعد 3 تموز/ يوليو 2013م،
بينما كان ما يحدثونه بأنفسهم من تمام "استغلال" الأعداء داخليا وخارجيا
لنفس السياق.
تناسى الإخوان وبقية القوى الوطنية إذ يحاولون استعادة حراك 25 يناير أن المصريين على مدار تاريخهم لم يعرفوا ثورة عارمة تطيح بنظام أذلهم ودمر قواهم، فقد اعتادوا الصبر والتحلي بأقصى درجات ضبط النفس، خاصة مع ما تتميز به حياتهم وبيئتهم القديمة من اعتياد وضع البذرة في الأرض الزراعية ثم انتظار نموها لأشهر
فأما أتباع
الجنرال والمدنيون المدعون فلم تتضح الصورة أولا لديهم، وكذلك أتباع الجماعة حتى
بعد استيلاء الجنرال على السلطة، مرورا بمذابح تزامنت أو سبقت أو لحقت "مذبحة
رابعة" وسجن عشرات الألوف واستمرار استشهادهم، بالإضافة لمطاردة أمثالهم -على
الأقل- وتيه الملايين من جراء هذا، وغياب الجماعة وما كانت تقدمه لهم من معونات
بالإضافة لسياسات النظام التي تستبد بالجميع وتزيدهم فقرا.
تناسى الإخوان وبقية
القوى الوطنية إذ يحاولون استعادة حراك 25 يناير أن المصريين على مدار تاريخهم لم
يعرفوا ثورة عارمة تطيح بنظام أذلهم ودمر قواهم، فقد اعتادوا الصبر والتحلي بأقصى
درجات ضبط النفس، خاصة مع ما تتميز به حياتهم وبيئتهم القديمة من اعتياد وضع البذرة
في الأرض الزراعية ثم انتظار نموها لأشهر، وما تمتاز به شعوب مثل هذه المجتمعات،
ولولا الفتح العربي الإسلامي وحنكة وحكمة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لبقيت مصر
كثيرا ترزح تحت الحكم الروماني، أو ربما انتظرت محتلا آخر بعد قرون، وحتى لحظة طردهم
"حملة فريزر" عام 1807م لم تكن إلا لحظة عابرة في تاريخهم، فلم يجتمع
بعدها زعماؤهم على مصري ليقودهم بل أتوا بالألباني محمد علي الذي ما لبث أن أعاد
سيرة فرعون فيهم، حتى عاد المحتل الإنجليزي إليهم عام 1872م فنجح في اقتناص بلدهم
هذه المرة.
ثم إن ما يسمونه
ثورة 1952م لم يكن إلا حركة محدودة من الجيش لتبرم الولايات المتحدة الأمريكية -القوة
الدولية المتزايدة الصعود وقتها- منه، وصادف الضباط توفيقا يفوق أحلامهم لعدم رغبة
الملك فاروق -رحمه الله- في احتراب داخلي بالجيش، ولاحقا أتت كلمة
"ثورة" على يد الأديب الراحل طه حسين -رحمه الله- فلاقت صدى ومحبة لدى
19 ضابطا أبدلوا أنفسهم بالملك المغادر بحسب قول الراحل اللواء محمد نجيب، أول
رئيس جمهورية مفترض لمصر.
الجميع اليوم خاسر من مصريين وإخوان وقوى وطنية بلا استثناء سوى لباعة الضمير وتجار الأزمات من هنا وهنالك
وبالتالي فإن الآمال
الطويلة للجماعة وغيرها بثورة المصريين عقب إزاحة الإخوان عن الحكم لم تكن غير
موافقة للواقع فحسب، بل لمُسلّمة كون الثورة يقوم بها في العادة نخبة تقود الصفوف
وتقدم الدماء الغالية الزاكية، ثم تتبعها الجموع لاحقا، فضلا عن خصوصية داخل
الخصوصية تتعلق بطبيعة الشعب نفسه، فضلا عن عدم مراعاة واقع المجتمع المأزوم
واستعداده لتقبل عودة الديكتاتورية بسهولة ويسر، على النقيض تماما من فكرة الإخوان
وقتها، فضلا عن عدم خبرة الأخيرين بل ومناصريهم بدهاليز السياسة ونفوس المُتصدرين
لهم الذين يواجهونهم، بالإضافة لنهج الإخوان المبدئي الإصلاحي الذي لم يعرف
التبديل أو التغيير أو مجرد التفسير من قادتها حتى بعدما اتخذوا نهج الثورية طريقا!
والخلاصة أن
الجميع اليوم خاسر من مصريين وإخوان وقوى وطنية بلا استثناء سوى لباعة الضمير
وتجار الأزمات من هنا وهنالك وبعض الموسرين من الأساس، أما كيفية التغلب على ذلك
كله فيحتاج معجزة تصلح الضمائر قبل الألسنة والأفهام قبل القلوب، ثم النظر فيما
سبق وغيره لمحاولة استنهاض طريق العودة!
وعموما فلا يطمح
هذا المقال للإلمام بكل أو أبرز ما حدث قبيل ثورة 25 يناير -فك الله كربها وأهلها
ومخلصي مصر جميعا- وكذلك ما جرى ويجري للمصريين ومن ثم للإخوان المسلمين، فلعل
مجلدات تكتب وتجيء غيرها لا تفي بالغرض، ولكننا بوضوح نهدف لمحاولة وضع الإصبع على
الجراح مباشرة، لا بغرض زيادتها إيلاما، كما يحب تجار الحروب والأزمات تكرار
القول، وإنما محاولة لتنظيفها ومن ثم إخراج ما فيها وتهذيبها قبل إذابتها.