لا بأس، هي ثورة، لكنها ثورة مضادة، مثلت غطاء مدنياً للانقلاب العسكري!
وإذ قلت في السابق إن هذه الثورة لم يستفد منها سوى
السيسي، فقد غيّرت أقوالي في وقت لاحق، وقلت من استفاد من المشاركين فيها هم على سبيل الحصر؛ السيسي ومحمود بدر، فلما رأيت فتى يسمى طارق، تبين أنه عضو في مجلس النواب لدورتين، كدت أكتب أن الثلاثي وهم: السيسي، ومحمود، وطارق، من قاموا بالثورة واستفادوا منها، فكل من قاموا بالثورة أو شاركوا في إنجاحها، اختفوا عن المشهد تماماً، فاختفى رئيس أركان الجيش، الذي عُين لسنوات وزيراً للدفاع، والذي كان أكثر عدوانية في التعامل مع الرئيس محمد مرسي، وأكثر تحريضاً على عزله، كما اختفى وزير الداخلية، الذي كان أحد أدواتها المهمة. وإذا كان الأول ظهر في بعض الجنازات العسكرية، فإن الأخير منذ أن عُزل لم يشاهد في جنازة أو فرح، وكأنه فرض عليه الاختفاء تماماً، سنّة الانقلابات في الذين خلوا من قبل!
وإن استمر محمود بدر وصاحبه طارق في المشهد، فهما استثناء يؤكد القاعدة، ولأنهما "حماية إماراتية"، تماماً كما كانت دول وأشخاص يقعون تحت حماية دول الاحتلال، فيقال هذه الدولة حماية بريطانية، وهذا الشخص الذي ينتمي لدولة الاحتلال الفرنسي حماية فرنسية. ثم إن حضور بدر وطارق إنما في حدود الضرورة، فلا أحد يتذكرهما باعتبارهما من مؤسسي حركة
تمرد، ولكن كنواب في البرلمان، فبعد أن كانت الحركة ومحمود ضمن منهج التاريخ المقرر على النشء حُذف ذلك في العام التالي، ولم يعد الآن أحد يذكر الحركة أو أصحابها إلا أصحابها أنفسهم، وهذا بيت القصيد في هذا المقال، كما سنبين بعد قليل!
الصحف القومية:
ففي
الذكرى السنوية لثورة يونيو المجيدة هذا العام، تذكرت طرفاً آخر استفاد من الثورة المجيدة، وهي الصحف القومية
المصرية، فقد اطلعت على "النسخ المطبوعة" في ذكراها، فإذا هي مزدحمة بالإعلانات لتذكرنا بالأيام الخوالي، عندما كانت هذه الصحف واسعة الانتشار، وكان الاقتصاد المصري "قويا" إلى حد ما، وكانت الإعلانات التجارية مدفوعة الثمن، تزاحم المادة التحريرية، وتغزو الصفحات فتطردها!
في الذكرى السنوية لثورة يونيو المجيدة هذا العام، تذكرت طرفاً آخر استفاد من الثورة المجيدة، وهي الصحف القومية المصرية، فقد اطلعت على "النسخ المطبوعة" في ذكراها، فإذا هي مزدحمة بالإعلانات لتذكرنا بالأيام الخوالي
فإذا بي -يا إلهي- أجد في هذا العام، ومؤكد أنه كان يحدث في الأعوام السابقة في هذه المناسبة العطرة، إعلانات كثيرة، أحيت الصفحات الميتة بفعل المادة الصحفية فاقدة الروح والقيمة المهنية، فالوقت الذي تستغرقه في قراءة الصحافة المصرية هو وقت تصفحها، فلا يستوقفك خبر، أو عنوان لافت، اللهم إلا بعض المقالات الفجة في النفاق. ورأيت الكاتب الكبير عبده مباشر، لا يزال إلى الآن يمارس نفس الدور الذي كان يمارسه منذ أن كنت صبياً، بدأه مع الرئيس السادات، ثم الرئيس مبارك.
وكان صلاح عيسى مديراً لتحرير جريدة "الأهالي" وله زاوية بها تحمل عنوان "الإهبارية"، يتعرض فيها بالنقد لما يكتبه كتاب الحكومة، ويضع لكل منهم وصفاً ساخراً، فموسى صبري هو موسى شرف المهنة، لأنه كان يكثر الكتابة عن مهنة الصحافة وشرفها وتقاليدها عندما يتعرض لكاتب معارض في مقالاته بجريدة "الأخبار"، بينما عبده مباشر هو "عبده انديرك"!
هرِمنا ونقف على باب سن التقاعد الوظيفي بينما عبده مباشر، رئيس تحرير جريدة "شباب بلادي" التي أصدرها الحزب الوطني لسنوات منذ قرابة النصف قرن، لا يزال إلى الآن على الطريق، لم يحد عنه، ويكتب بحماس شباب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وليس هذا هو الموضوع!
فالإعلانات التجارية كلها تهنئ "الرئيس السيسي" بالثورة المجيدة، فبدت لي ثورة لقيطة، كطفل وجدوه ملقى على باب مسجد، فقال أحدهم لزوجته: "قرة عين لي ولك"، وسجله باسمه ليكون ابناً بالتبني!
فبعد تسع سنوات من الثورة المجيدة، اختفى من دعوا إليها وقاموا بها، فإذا كان للسيسي ولد، فهو
انقلابه العسكري في 3 تموز/ يوليو، الذي يراه بعض الذين شاركوا في
30 يونيو أنه انقلاب على ثورتهم، وليس انقلاباً على ثورة يناير كما نقول نحن، لكن أين من قاموا بثورة يونيو؟!
كانوا دائماً يؤكدون على التمييز بين الثورة والانقلاب، وأن الأولى يحكم بعدها رئيس مدني، أما الثاني فمن يحكم هو العسكري الذي ألقى البيان، كان يدعم موقفهم أن قائد الجيش قال إنه لا رغبة لديهم في الحكم، ولن يحكموا، فلما قرر الترشح بُهت الذي كفر!
كان السيسي يحرص -ولا يزال- على التأكيد بأن تدخل
الجيش كان بناء على ثورة الشعب، كما فعلها أول مرة، وأن بيانه هو استجابة من القوات المسلحة لنداء الجماهير، بعد أن "غُلب حماره" في إقناع الرئيس بالاستجابة لنبض الجماهير والدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة! لأنه إذا صار صاحباً لثورة يونيو، فالمعنى أنه قاد انقلاباً عسكرياً، وقد استغرق الوصول إلى إقناع العامة والدهماء بأنه انقلاب وقتاً طويلاً. وبعض هؤلاء العامة والدهماء كانوا يشاركوننا في اللقاءات التلفزيونية يصفون ما جرى بأنه ثورة، ونؤكد لهم أن بيان القائد العام للقوات المسلحة قطع قول كل خطيب، لكنهم كانوا دائماً يؤكدون على التمييز بين الثورة والانقلاب، وأن الأولى يحكم بعدها رئيس مدني، أما الثاني فمن يحكم هو العسكري الذي ألقى البيان، كان يدعم موقفهم أن قائد الجيش قال إنه لا رغبة لديهم في الحكم، ولن يحكموا، فلما قرر الترشح بُهت الذي كفر!
اختفاء جبهة الإنقاذ:
ومهما يكن فقد كان لازماً ألا تمكن الإعلانات التجارية، بل والمقالات الصحفية، السيسي من أن يكون أباً لثورة يونيو، بتوجيه التهنئة له، مع إخفاء كامل للأب الشرعي لها، وهي جبهة الإنقاذ ورموزها!
فلا كلمة، ولا حرف، عن الجبهة الموقرة، فقد تم مسحها بأستيكة، وتغييب رموزها تماماً، ولم يبق منها سوى حمدين صباحي؛ يتم استدعاؤه للقيام بمهمة ثم يعود مرة أخرى إلى المطبخ الذي جاء منه، ليكمل إنجازاته الكبرى في صناعة "الأومليت".. كثيرون بلغ بهم الجهل بفنون الطهي مداه، حتى ظنوا أن ما يصنعه في الصورة هو بيض في الزبدة، وهؤلاء لا يمكن الاعتماد عليهم في التمييز بين المكرونة بالبشاميل، والمسقعة!
أمام هذا التجاهل الإعلامي لاسم جبهة الإنقاذ في ذكرى الثورة المجيدة، لم نجد من بين رموزها، الذين يشتغلون بالكتابة، من يتذكرها ولو في مقال، وكأن تعليمات صدرت بمنع ذكر اسمها أو ما يمت لها بصلة، وكأنها العار!
ومع استدعاء حمدين، فلا يُذكر منسوباً لجبهة الإنقاذ، التي صار رموزها هم والعدم سواء، فلا موضوع صحفي أو لقاء تلفزيوني للحديث عن كواليس ما كان يدور داخل الجبهة، إلى آخر هذا الأداء المهني الروتيني، ولا يزال وإلى وقت قريب تتم مناقشة من عاصروا ثورة يوليو 1952 ممن لا يزالون على قيد الحياة، للحديث عنها في كل عام، أما جبهة الإنقاذ فقد ماتت فطيساً!
فقائدها الأعلى يتحدى الملل في الخارج، بالتغريد في الهواء الطلق أحياناً ليثبت أنه على قيد الحياة ولم يمت بعد، وهو يخشى من أن ينتقد أهل الحكم، فيعاقب بتأجيل الجواز الدبلوماسي السنوي المدون فيه في خانة المهنة "نائب رئيس الجمهورية سابقاً".. يا له من رويبضة، وإن تولى المناصب العليا.
وأمام هذا التجاهل الإعلامي لاسم جبهة الإنقاذ في ذكرى الثورة المجيدة، لم نجد من بين رموزها، الذين يشتغلون بالكتابة، من يتذكرها ولو في مقال، وكأن تعليمات صدرت بمنع ذكر اسمها أو ما يمت لها بصلة، وكأنها العار!
حكاية الضابط زعيم الثورة:
لقد بدا تغييب كل هذه الحركات واضحاً لنا مبكراً، وإن كان من تخطوا الرقاب في حركة تمرد أكثر خفة ورشاقة، ففي يومين متتاليين وبعد عزل الرئيس المنتخب، تلقى مؤسسو الحركة إنذاراً بتجاوزها وتجاوز أي دور لهم، كان الإنذار الأول من إبراهيم عيسى، والثاني من لميس الحديدي، وكان واضحاً أنه إنذار عسكري في المقام الأول والأخير، فلا حديث في هذا العام وفي الأعوام السابقة عن تمرد، ودورها، وكواليسها، وحكايتها، بل سقطت من الذاكرة التي تم تسجيلها في المسلسلات التي تمثل رواية السيسي، حتى اشتكى محمود بدر من هذا التجاهل في تغريدة كتبها ثم حذفها، وواضح أن الحذف كان بأمر عسكري أيضاً.
بدا تغييب كل هذه الحركات واضحاً لنا مبكراً، وإن كان من تخطوا الرقاب في حركة تمرد أكثر خفة ورشاقة، ففي يومين متتاليين وبعد عزل الرئيس المنتخب، تلقى مؤسسو الحركة إنذاراً بتجاوزها وتجاوز أي دور لهم،
وأنا أطالع الصور القديمة، التي أعاد البعض نشرها عبر السوشيال ميديا، وجدت ضابطاً مرفوعاً على الأعناق في ميدان التحرير مع عدد من الضباط بزيهم الشرطي، في هذا اليوم التاريخي؛ يوم الثورة المجيدة، وكان هذا الضابط هو زعيم الضباط الذين حضروا للميدان وكانوا قبل حضورهم ضد الرئيس محمد مرسي، لدرجة أنهم أصدروا بياناً قالوا فيه إنهم لن ينفذوا قرار النائب العام بالقبض على توفيق عكاشة، بعد تهديده الرئيس بالقتل، وصدور قرار من النيابة العامة بضبطه وإحضاره!
وكان هذا الضابط هو زعيمهم، الذي شارك في البرامج التلفزيونية في سنة حكم الرئيس محمد مرسي، يهاجمه، ويهاجم الشيخ حازم أبو اسماعيل ويتوعده، ويتطاول على الشيخ عاصم عبد الماجد في مداخلة تلفزيونية، كان فيها الشيخ في الأستوديو وهو على الهاتف!
لقد انتهى هذا الضابط بفضيحة، عندما تم القبض عليه في الشهور الأولى للانقلاب، بتهمة القوادة وتأجير شقة له لخليجيين لممارسة الأعمال المنافية للآداب، وإذ برأه القضاء، فقد استمر فصله من الوظيفة، مع حرصه على التعريف بشخصه بأنه ضابط محال للتقاعد، وليس مفصولاً، وتوالت عليه القضايا والاتهامات فاتهم بدفع رشوة، ولا يزال إلى الآن يكافح من أجل عودته للوظيفة!
لقد قلنا مبكراً للقوم إنهم ضيوف على ثورة يونيو المجيدة، لأن لها أصحابا، وكان طبيعياً أن يأتي الاحتفال بها، فيتم الإعراض عن كل الحركات والجبهات والأشخاص الذين شاركوا فيها، فلا حضور إلا للزعيم الأوحد.
انتهى الدرس يا غبي!
twitter.com/selimazouz1