منذ بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بسبب من طبيعة النخب السنية التي أدارتها، كان ثمة تماه تام بين المجتمع السني والدولة، ورغم الحضور السني الطاغي في الحركات والأحزاب السياسية التي كانت تعارض النظام الملكي، وتعترض عليه، لم تتأثر فكرة هذا التماهي التاريخي الذي ترسخ في العقل الجمعي السني.
بعد ثورة/ انقلاب عام 1958، بدأ
التفكير، للمرة الأولى، بمحاولة إيجاد تمثيل سياسي لمكونات المجتمع العراقي، من
خلال تولي “مجلس السيادة” موقع رئاسة الجمهورية ضم رئيسا سنيا وعضوين شيعيا وكرديا،
والذي ظل، بطبيعة الحال، مجرد شكل بسبب انفراد عبد الكريم قاسم بالسلطة وتهميشه
للمجلس، وكانت مهمة هذا المجلس الوحيدة المصادقة على التشريعات التي يصدرها مجلس
الوزراء. وقد ظلت الهيمنة في مجلس الوزراء عمليا للسنّة العرب (8 من مجموع 13)،
لكنها تعرضت إلى نوع من الاختلال لأسباب عديدة، من بينها وقوف اليمين السني
التقليدي ضد عبد الكريم قاسم بسبب قانون الأحوال الشخصية ومسألة المساواة في الإرث
بين الرجل والمرأة، وبسبب طبيعة العلاقة التي جمعت قاسم بالشيوعيين، وبسبب موقفه
من نظام جمال عبد الناصر، وبسبب تداعيات أحداث الموصل قبل وبعد حركة عبد الوهاب
الشواف، وأيضا بسبب حادثة إعدامات أم الطبول، لكن ثورة/ انقلاب شباط 1963 أرجع
الأمور إلى ما كانت عليه سريعا.
وبعد ثورة/ انقلاب 1968 وسيطرة حزب البعث
على السلطة والدولة في العراق، لم يعد ثمة مجال عام خارج إطار البعث.
في سياق التحضيرات لاحتلال العراق
وتغيير نظامه السياسي، ومع هذه المماهاة الطويلة بين السنة العرب والدولة، وانحسار
دور الحركات والأحزاب المعارضة، أصبح الحضور السني هامشيا، الأمر الذي اضطر الأمريكيين
إلى صناعة ما سُمي بـ”الحركة الملكية الدستورية”، وهي حركة وهمية جاءت ضمن مساعي
المعارضة العراقية التي حصلت على أموال في إطار قانون تحرير العراق الذي أقره
الكونغرس الأمريكي في العام 1998!
وضمن محاولة الأمريكيين لمعالجة مشكلة
التمثيل السني في المعارضة العراقية، تم دعوة بعض ممثلي الإخوان المسلمين/ الحزب
الإسلامي لحضور اجتماع مؤتمر لندن الذي عقد في عام 2002 للتمهيد لاحتلال العراق.
وأوعز البيان الختامي للمؤتمر بتشكيل لجنة للمتابعة والتنسيق ضمت أياد السامرائي
وحاجم الحسني عن الحزب الإسلامي.
وفي سياق المشكلة نفسها، اعترف
الأمريكيون بعد الاحتلال، بأن الحركة الملكية الدستورية لا تملك أي إمكانية للحضور
أو التأثير، لذلك اضطروا إلى الاعتماد على الحزب الإسلامي ممثلا وحيدا للسنة العرب
في العراق، ووضعوا محسن عبد الحميد ضمن أعضاء مجلس الحكم ممثلا عن الحزب، رغم أن
عدد أعضاء الحزب الفعلي حينها لم يكن يتجاوز المئات على أفضل تقدير!
أما الأعضاء السنة الأربعة الآخرون
الذين “وضعوا” في مجلس الحكم لتمثيل السنة العرب، لم يكن لهم أي وجود أو تأثير، واختفوا تماما من المشهد بعد نهاية مجلس الحكم!
في الحكومة الانتقالية التي شكلها
إبراهيم الجعفري 2005، وبسبب مقاطعة العرب السنة شبه الشاملة لانتخابات الجمعية
الوطنية التي جرت 2005، اضطر الجعفري والأمريكيون إلى منح الوزرات السنية لسبعة
شخصيات، وباستثناء السيد حاجم الحسني (الذي استبعد من الحزب الإسلامي حينها بسبب
رفضه الانسحاب من حكومة أياد علاوي)، لم يكن للوزراء الستة الآخرين أي حضور سياسي
قبل لحظة التوزير، ومرة أخرى، باستثناء أسامة النجيفي، اختفى الآخرون من المشهد
لاحقا!
لكن، في سياق كتابة الدستور العراقي،
تجددت الحاجة لتمثيل سني في لجنة كتابة الدستور، بعد مقاطعة السنة لانتخابات
الجمعية الوطنية، فاضطُر الأمريكيون أيضا إلى فتح الباب أمام جبهة الحوار الوطني
للدخول إلى ساحة التمثيل السني، لتشارك مع الحزب الإسلامي ومؤتمر أهل العراق/
الوقف السني، وبعض المستقلين في تلك اللجنة!
وبسبب من هذا الاعتراف الأمريكي، والدعم
الذي حصلوا عليه، استطاعت هذه القوى الثلاث، أو الأربع بعد الانشقاق الذي حصل في
جبهة الحوار، أن تحصل على الغالبية العظمى من مقاعد مجلس النواب في انتخابات العام
2005 (44 مقعدا لجبهة التوافق التي ضمت الحزب الإسلامي ومؤتمر أهل العراق وجبهة
الحوار الوطني/ جناح خلف العليان، و11 مقعدا لجبهة الحوار الوطني/ جناح صالح
المطلك).
في الانتخابات التالية التي جرت عام
2010، لم تستطع جبهة التوافق التي ضمت الحزب الإسلامي ومؤتمر أهل العراق، سوى
الحصول سوى على 6 مقاعد، فيما لم تستطع جبهة الحوار/ جناح العليان من الحصول على أي
مقعد. فيما حصل المنشقون عن الحزب الإسلامي، والمنشقون من جبهة الحوار، على مقاعد
أكثر ضمن تحالفهم، في إطار القائمة العراقية التي هيمنت على مجمل المقاعد السنية،
وهو ما كشف عن عدم وجود قاعدة حقيقية للحزب الإسلامي في الشارع السني، وأن ما حصل
عليه عام 2005 كان بسبب احتكاره التمثيل الرسمي السني بإرادة أمريكية!
تجربة القائمة العراقية، ورغم فشلها
المبكر، دفعت الفاعل السياسي الشيعي إلى التفكير جديا في “صناعة” فاعلين سياسيين
سنة جددا، أو تبني فاعلين كانوا جزءا من القائمة العراقية، في مقابل إنهاء أي هوية
سياسية سنية لديها رؤيتها الخاصة عن طريقة إدارة النظام السياسي، أو إدارة الدولة،
وصنع طبقة سياسية سنية تقبل بدور “التابع” لرؤية الفاعل السياسي الشيعي! وقد نجحت
هذه السياسة إلى حد بعيد في أعقاب انتخابات عام 2014، عندما استطاع السيد نوري
المالكي، في إطار سعيه لولاية ثالثة، إلى عقد صفقات مع بعض القوى السياسية السنية،
وعلى رأسها الحزب الإسلامي، قبيل الانتخابات، أفضت لاحقا إلى “صناعة” تحالف القوى
العراقية” الذي هيمن على التمثيل السني بعدها، رغم فشل المالكي في سعيه!
وتكرر الأمر عام 2018، حين استُخدمت
أدوات السلطة، برضا ضمني من الفاعل السياسي الشيعي، في تزوير الانتخابات لضمان
هيمنة شبه كاملة لطبقة سياسية سنية معينة، لا تمتلك أي تصور عن هوية سياسية سنية في
سياق نظام سياسي بُني أساسا على فكرة الهويات السياسية، واكتفى هؤلاء باستخدام
المال المتحصل عن الفساد، وأدوات السلطة، في تكريس علاقة زبائنية مع فئات محددة من
الجمهور السني في سياق علاقة مقايضة، وقد نجحت هذه السياسة نجاحا باهرا في
انتخابات عام 2021!
لقد كشف الصراع الشيعي ـ الشيعي الأخير
عن حقيقة صناعة هذه الطبقة السنية السياسية، وذلك من خلال قيام الإطار التنسيقي
اليوم بمحاولة لـ”صناعة” طبقة سياسية سنية موازية، وإعادة إنتاج أخرى كانت
قد”صنعت” في مرحلة أخرى، ولا أحد في الواقع انتبه إلى أن إنتاج طبقة سنية موالية
ومدجنة، هو السبب الرئيسي في أزمة التمثيل السني التي أدت إلى إنتاج ظاهرة داعش،
وأن الإصرار على ذلك سيؤدي بالضرورة إلى إنتاج كوارث سياسية أخرى.